وقول امرىء القيس: ومن الطريقة جائر وهدى قصد السبيل ومنه ذو دخل
فإذا علمت ذلك فاعلم: أن في معنى الآية الكريمة وجهين معروفين للعلماء، وكل منهما مصداق في كتاب الله، إلا أن أحدهما أظهر عندي من الآخر.
الأول منهما ـ أن معنى {وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}: أن طريق الحق التي هي قصد السبيل على الله، أي موصلة إليه، ليست حائدة، ولا جائرة عن الوصول إليه وإلى مرضاته. {وَمِنْهَا جَآئِرٌ}: أي من الطريق جائر لا يصل إلى الله، بل هو زائغ وحائد عن الوصول إليه. ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، وقوله: {وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ}.
ويؤيد هذا التفسير قوله بعده: {ومنها جائر} وهذا الوجه أظهر عندي. واستظهره ابن كثير وغيره، وهو قول مجاهد.
الوجه الثاني ـ أن معنى الآية الكريمة: {وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} أي عليه جل وعلا أن يبين لكم طريق الحق على ألسنة رسله.
ويدل لهذا الوجه قوله تعالى: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}، وقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}، وقوله: {فأَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} إلى غير ذلك من الآيات.
وعلى هذا القول، فمعنى قوله: {ومنها جائر} غير واضح، لأن المعنى: ومن الطريق جائر عن الحق، وهو الذي نهاكم الله عن سلوكه. والجائر: المائل عن طريق الحق. والوجهان المذكوران في هذه الآية جاريان في قوله: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى}.
{وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}
قوله تعالى: {وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه لو شاء هداية جميع خلقه لهداهم أجمعين. وأوضح هذا المعنى في آيات أخر، كقوله: {وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ}، وقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا}، وقوله: {وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ}، وقوله: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً}، وقوله: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}، إلى غير ذلك من الآيات. وقد قدمنا هذا في سورة يونس. قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ}. تقدم الكلام على ما يوضح معنى هذه الآية الكريمة في سورة الحجر.
وقوله جل وعلا: {وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن إنباته بالماء ما يأكله الناس من الحبوب والثمار، وما تأكله المواشي من المرعى ـ من أعظم نعمه على بني آدم، ومن أوضح آياته الدالة على أنه هو المستحق لأن يعبد وحده. وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ} وقوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى}، وقوله: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ}، وقوله: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رِزْقاً لِّلْعِبَادِ}، وقوله: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} وقوله:
{وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} والآيات بمثل هذا كثيرة جدًا.
تنبيهان
الأول ـ اعلم أن النظر في هذه الآيات واجب، لما تقرر في الأصول "أن صيغة الأمر تقتضي الوجوب إلا لدليل يصرفها عن الوجوب". والله جل وعلا أمر الإنسان أن ينظر إلى طعامه الذي به حياته، ويفكر في الماء الذي هو سبب إنبات حبه ـ من أنزله?؟ ثم بعد إنزال الماء وري الأرض من يقدر على شق الأرض عن النبات وإخراجه منها?؟ ثم من يقدر على إخراج الحب من ذلك النبات?؟ ثم من يقدر على تنميته حتى يصير صالحًا للأكل?؟ {انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ}. وذلك في قوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَـانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ}.
وكذلك يجب على الإنسان النظر في الشيء الذي خلق منه، لقوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ} وظاهر القرآن: أن النظر في ذلك واجب، ولا دليل يصرف عن ذلك.
التنبيه الثاني: اعلم أنه جل وعلا أشار في هذه الآيات من أول سورة "النحل" إلى براهين البعث الثلاثة، التي قدمنا أن القرآن العظيم يكثر فيه الاستدلال بها على البعث. الأول ـ خلق السموات والأرض المذكور في قوله: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ}. والاستدلال بذلك على البعث كثير في القرآن، كقوله: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} إلى قوله: {مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ}، وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، وقوله: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}، وقوله: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم.
البرهان الثاني ـ خلق الإنسان أولًا المذكور في قوله: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ} لأن من اخترع قادر على الإعادة ثانيًا. وهذا يكثر الاستدلال به أيضًا على البعث، كقوله: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ}، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ}، وقوله: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم.
البرهان الثالث ـ إحياء الأرض بعد موتها المذكور هنا في قوله: {يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ}، فإنه يكثر في القرآن الاستدلال به على البعث أيضًا، كقوله: {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى}، وقوله: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} أي كذلك الإحياء خروجكم من قبوركم أحياء بعد الموت، وقوله: {وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} أي من قبوركم أحياء بعد الموت، وقوله: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} وقوله: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم.
فهذه البراهين الثلاثة يكثر جدًا الاستدلال بها على البعث في كتاب الله كما رأيت وكما تقدم.
وهناك برهان رابع يكثر الاستدلال به على البعث أيضًا ولا ذكر له في هذه الآيات، وهو إحياء الله بعض الموتى في دار الدنيا، كما تقدمت الإشارة إليه في "سورة البقرة"، لأن من أحيا نفسًا واحدة بعد موتها قادر على إحياء جميع النفوس: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}.
وقد ذكر جل وعلا هذا البرهان في "سورة البقرة" في خمسة مواضع.
الأول ـ قوله: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
الثاني ـ قوله: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.
الثالث ـ قوله جل وعلا: {فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ}.
الرابع ـ قوله: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
الخامس ـ قوله تعالى: {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} أي ترعون مواشيكم السائمة في ذلك الشجر الذي هو المرعى. والعرب تطلق اسم الشجر على كل ما تنبته الأرض من المرعى. ومنه قول النمر بن تولب العكلي: إنا أتيناك وقد طال السفر نقود خيلا ضمرا فيها صعر
نطعمها اللحم إذا عز الشجر
والعرب تقول: سامت المواشي إذا رعت في المرعى الذي ينبته الله بالمطر. وأسامها صاحبها: أي رعاها فيه، ومنه قول الشاعر: مثل ابن بزعة أو كآخر مثله أولى لك ابن مسيمة الأجمال
يعني يا بن راعية الجمال التي تسميها في المرعى.
وقوله: {يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} قرأه شعبة عن عاصم "ننبت" بالنون والباقون بالياء التحتية. قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه سخر لخلقه خمسة أشياء عظام، فيها من عظيم نعمته ما لا يعلمه إلا هو، وفيها الدلالات الواضحات لأهل العقول على أنه الواحد المستحق لأن يعبد وحده.
والخمسة المذكورة هي: الليل، والنهار، والشمس، والقمر، والنجوم.
وكرر في القرآن ذكر إنعامه بتسخير هذه الأشياء، وأنها من أعظم أدلة وحدانيته واستحقاقه للعبادة وحده. كقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} وإغشاؤه الليل النهار: هو تسخيرهما، وقوله: {وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ}، وقوله: {وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}، وقوله: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ}، وقوله: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} إلى غير ذلك من الآيات. وفي هذه الآية الكريمة ثلاث قراءات سبعيات في الأسماء الأربعة الأخيرة، التي هي الشمس، والقمر، والنجوم، ومسخرات. فقرأ بنصبها كلها نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وعاصم في رواية شعبة. وقرأ برفع الأسماء الأربعة ابن عامر، على أن {والشمس} مبتدأ وما بعده معطوف عليه و{مسخرات} خبر المبتدأ. وقرأ حفص عن عاصم بنصب {والشمس والقمر} عطفًا على {الليل والنهار} ورفع {والنجوم مسخرات} على أنه مبتدأ وخبر. وأظهر أوجه الإعراب في قوله {مسخرات} على قراءة النصب أنها حال مؤكدة لعاملها. والتسخير في اللغة: التذليل. قوله تعالى: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}.
{وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}
قوله: {وما} في محل نصب عطفًا على قوله {وسخر لكم الليل والنهار} أي وسخر لكم ما ذرأ لكم في الأرض، أي ما خلق لكم فيها في حال كونه مختلفًا ألوانه.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة امتنانه على خلقه بما سخر لهم مما خلق لهم في الأرض منبهًا على أن خلقه لما خلق لهم في الأرض مع ما فيه من النعم العظام ـ فيه الدلالة الواضحة لمن يذكر ويتعظ على وحدانيته واستحقاقه لأن يعبد وحده. وكرر هذا المعنى في مواضع كثيرة، كقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً}، وقوله: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ}، وقوله: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، وقوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}.
وأشار في هذه الآية الكريمة إلى أن اختلاف ألوان ما خلق في الأرض من الناس والدواب وغيرهما من أعظم الأدلة على أنه خالق كل شيء، وأنه الرب وحده، المستحق أن يعبد وحده.
وأوضح هذا في آيات أخر. كقوله في "سورة فاطر": {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}، وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} ولا شك أن اختلاف الألوان والمناظر والمقادير والهيئات وغير ذلك ـ فيه الدلالة القاطعة على أن الله جل وعلا واحد، لا شبيه له ولا نظير ولا شريك، وأنه المعبود وحده.
وفيه الدلالة القاطعة على أن كل تأثير فهو بقدرة وإرادة الفاعل المختار، وأن الطبيعة لا تؤثر في شيء إلا بمشيئته جل وعلا.
كما أوضح ذلك في قوله: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فالأرض التي تنبت فيها الثمار واحدة. لأن قطعها متجاورة، والماء الذي تسقى به ماء واحد، والثمار تخريج متفاضلة، مختلفة في الألوان والأشكال والطعوم، والمقادير والمنافع.
فهذا أعظم برهان قاطع على وجود فاعل مختار، يفعل ما يشاء كيف يشاء، سبحانه جل وعلا عن الشركاء والأنداد.
ومن أوضح الأدلة على أن الطبيعة لا تؤثر في شيء إلا بمشيئته جل وعلا ـ أن النار مع شدة طبيعة الإحراق فيها ألقى فيها الحطب وإبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ولا شك أن الحطب أصلب وأقسى وأقوى من جلد إبراهيم ولحمه. فأحرقت الحطب بحرها، وكانت على إبراهيم بردًا وسلامًا لما قال لها خالقها: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} فسبحان من لا يقع شيء كائنًا ما كان إلا بمشيئته جل وعلا، فعال لما يريد.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {يذكرون} أصله يتذكرون، فأدغمت التاء في الذال. والاذكار: الاعتبار والاتعاظ. قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه سخر البحر. أي ذلله لعباده حتى تمكنوا من ركوبه، والانتفاع بما فيه من الصيد والحلية، وبلوغ الأقطار التي تحول دونها البحار، للحصول على أرباح التجارات ونحو ذلك.
فتسخير البحر للركوب من أعظم آيات الله. كما بينه في مواضع أخر. كقوله: {وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ}، وقوله: {اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} إلى غير ذلك من الآيات.
وذكر في هذه الآية أربع نعم من نعمه على خلقه بتسخير البحر لهم:
الأولى ـ قوله: {لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً} وكرر الامتنان بهذه النعمة في القرآن. كقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}، وقوله: {وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً}.
الثانية ـ قوله: {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وكرر الامتنان بهذه النعمة أيضًا في القرآن. كقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} واللؤلؤ والمرجان: هما الحلية التي يستخرجونها من البحر للبسها، وقوله: {وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا}.
الثالثة ـ قوله تعالى: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} وكرر في القرآن الامتنان بشق أمواج البحر على السفن، كقوله: {وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} {وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ}، وقوله: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ}.
الرابعة ـ الابتغاء من فضله بأرباح التجارات بواسطة الحمل على السفن المذكور في قوله هنا: {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي كأرباح التجارات. وكرر في القرآن الامتنان بهذه النعمة أيضًا.
كقوله في "سورة البقرة": {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ}، وقوله في "فاطر": {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، وقوله في "الجاثية": {اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} إلى غير ذلك من الآيات.
مسائل
تتعلق بهذه الآية الكريمة:
المسألة الأولى ـ لا مفهوم مخالفة لقوله {لحما طريا} فلا يقال: يفهم من التقييد بكونه طريًا أن اليابس كالقديد مما في البحر لا يجوز أكله. بل يجوز أكل القديد مما في البحر بإجماع العلماء.
وقد تقرر في الأصول: أن من موانع اعتبار مفهوم المخالفة كون النص مسوقًا للامتنان. فإنه إنما قيد بالطري لأنه أحسن من غيره، فالامتنان به أتم.
وقد أشار إلى هذا صاحب مراقي السعود بقوله عاطفًا على موانع اعتبار مفهوم المخالفة: أو امتنان أو وفاق الواقع والجهل والتأكيد عند السامع
ومحل الشاهد قوله "أو امتنان" وقد قدمنا هذا في "سورة المائدة".
المسألة الثانية ـ اعلم أن علماء المالكية قد أخذوا من هذه الآية الكريمة: أن لحوم ما في البحر كلها جنس واحد. فلا يجوز التفاضل بينها في البيع، ولا بيع طريها بيابسها لأنها جنس واحد.
قالوا: لأن الله عبر عن جميعها بلفظ واحد، وهو قوله في هذه الآية الكريمة: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً} وهو شامل لما في البحر كله.
ومن هنا جعل علماء المالكية، للحوم أربعة أجناس لا خامس لها:
الأول ـ لحم ما في البحر كله جنس واحد، لما ذكرنا.
الثاني ـ لحوم ذوات الأربع من الأنعام والوحوش كلها عندهم جنس واحد. قالوا: لأن الله فرق بين أسمائها في حياتها فقال: {مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ}، ثم قال: {وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} أو بعد ذبحها فقد عبر عنها باسم واحد فقال: {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} فجمعها بلحم واحد. وقال كثير من العلماء: يدخل في بهيمة الأنعام الوحش كالظباء.
الثالث ـ لحوم الطير بجميع أنواعها جنس واحد. لقوله تعالى: {وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ} فجمع لحومها باسم واحد.
الرابع ـ الجراد هو جنس واحد عندهم. وقد قدمنا في "سورة البقرة" الإشارة إلى الاختلاف في ربويته عندهم. ومشهور مذهب مالك عدم ربويته، بناء على أن غلبة العيش بالمطعوم من أجزاء العلة في الربا. لأن علة الربا في الربويات عند مالك: هي الاقتيات والادخار. قيل: وغلبة العيش. وقد قدمنا: أن الاختلاف في اشتراط غلبة العيش تظهر فائدته في أربعة أشياء: وهي الجراد، والبيض، والتين، والزيت. وقد قدمنا تفصيل ذلك في "سورة البقرة".
فإذا علمت ذلك ـ فاعلم أن كل جنس من هذه الأجناس المذكورة يجوز بيعه بالجنس الآخر متفاضلًا يدًا بيد. ويجوز بيع طريه بيابسه يدًا بيد أيضًا في مذهب مالك رحمه الله تعالى.
ومذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله: أن اللحوم تابعة لأصولها، فكل لحم جنس مستقل كأصله ـ فلحم الإبل عنده جنس مستقل، وكذلك لحم الغنم ولحم البقر، وهكذا. لأن اللحوم تابعة لأصولها وهي مختلفة كالأدقة والأدهان.
أما مذهب الشافعي وأحمد في هذه المسألة ـ فكلاهما عنه فيها روايتان. أما الروايتان عن الشافعي فإحداهما ـ أن اللحوم كلها جنس واحد، لاشتراكها في الاسم الخاص الذي هو اللحم. الثانية ـ أنها أجناس كأصولها: كقول أبي حنيفة.
وقال صاحب المهذب: إن هذا قول المزني وهو الصحيح.
وأما الروايتان في مذهب الإمام أحمد فإحداهما ـ أن اللحوم كلها جنس واحد. وهو ظاهر كلام الخرقي، فإنه قال: وسائر اللحمان جنس واحد. قال صاحب المغني: وذكره أبو الخطاب وابن عقيل رواية عن أحمد. ثم قال: وأنكر القاضي أبو يعلى كون هذا رواية عن أحمد، وقال: الأنعام والوحوش والطير ودواب الماء أجناس، يجوز التفاضل فيها رواية واحدة، وإنما في اللحم روايتان.
إحداهما ـ أنه أربعة أجناس كما ذكرنا. الثانية ـ أنه أجناس باختلاف أصوله. انتهى من المغني بتصرف يسير، بحذف ما لا حاجة له فهذه مذاهب الأربعة في هذه المسألة.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: اختلاف العلماء في هذه المسألة من الاختلاف. في تحقيق مناط من نصوص الشرع، وذلك أنه ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد" فعلم أن الاختلاف الصنفين مناط جواز التفاضل.
واتحادهما مناط منع التفاضل، واختلاف العلماء في تحقيق هذا المناط. فبعضهم يقول: اللحم جنس واحد يعبر عنه باسم واحد، فمناط تحريم التفاضل موجود فيه. وبعضهم يقول: هي لحوم مختلفة الجنس، لأنها من حيوانات مختلفة الجنس. فمناط منع التفاضل غير موجود. والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثالثة ـ لا يجوز بيع اللحم بالحيوان الذي يجوز أكله من جنسه.
وهذا مذهب أكثر العلماء: منهم مالك والشافعي وأحمد. وقال أبو حنيفة رحمه الله: يجوز بيع اللحم بالحيوان. لأن الحيوان غير ربوي، فأشبه بيعه باللحم بيع اللحم بالإثمان.
واحتج الجمهور بما رواه مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم عن سعيد بن المسيب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع اللحم بالحيوان. وفي "الموطأ" أيضًا عن مالك عن داود بن الحصين: أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: من ميسر أهل الجاهلية بيع الحيوان باللحم بالشاة والشاتين. وفي "الموطأ" أيضًا عن مالك عن أبي الزناد عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول: نهى عن بيع الحيوان باللحم. قال أبو الزناد: فقلت لسعيد بن المسيب: أرأيت رجلًا اشترى شارفًا بعشر شياه؟ فقال سعيد: إن كان اشتراها لينحرها فلا خير في ذلك. قال أبو الزناد: وكل من أدركت من الناس ينهون عن بيع الحيوان باللحم. قال أبو الزناد: وكان ذلك يكتب في عهود العمال في زمان أبان بن عثمان وهشام بن إسماعيل ينهون عن ذلك اهـ من الموطأ.
وقال ابن قدامة في المغني: لا يختلف المذهب أنه لا يجوز بيع اللحم بحيوان من جنسه، وهو مذهب مالك والشافعي، وقول فقهاء المدينة السبعة. وحكي عن مالك: أنه لا يجوز بيع اللحم بحيوان معد للحم ويجوز بغيره. وقال أبو حنيفة: يجوز مطلقًا لأنه باع مال الربا بما لا ربا فيه. فأشبه بيع اللحم بالدراهم، أو بلحم من غير جنسه ولنا ما روي: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع اللحم بالحيوان" رواه مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم، عن سعيد بن المسيب، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن عبد البر: هذا أحسن أسانيده. وروي عن النَّبي صلى الله عليه وسلم "أنه نهى أن يباع حي بميت" ذكره الإمام أحمد. وروي عن ابن عباس: "أن جزورًا نحرت فجاء رجل بعناق فقال أعطوني جزءًا بهذه العناق ـ فقال أبو بكر: لا يصلح هذا قال الشافعي:
لا أعلم مخالفًا لأبي بكر في ذلك. وقال أبو الزناد: كل من أدركت ينهى عن بيع اللحم بالحيوان، ولأن اللحم نوع فيه الربا بيع بأصله الذي فيه مثله فلم يجز. كبيع السمسم بالشيرج اهـ.
وقال صاحب المهذب: ولا يجوز بيع حيوان يؤكل لحمه بلحمه، لما روى سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يباع حي بميت" وروى ابن عباس رضي الله عنهما: "أن جزورًا نحرت على عهد أبي بكر رضي الله عنه. فجاء رجل بعناق فقال: أعطوني بها لحمًا فقال أبو بكر: لا يصلح هذا" ولأنه جنس فيه الربا بيع بأصله الذي فيه مثله فلم يجز كبيع الشيرج بالسمسم اهـ.
وقال ابن السبكي في تكملته لشرح المهذب: حديث سعيد بن المسيب رواه أبو داود من طريق الزهري عن سعيد كما ذكره المصنف، ورواه مالك في الموطإ، والشافعي في المختصر والأم، وأبو داود من طريق زيد بن أسلم عن سعيد بن المسيب: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع اللحم بالحيوان" هذا لفظ الشافعي عن مالك، وأبي داود عن القعنبي عن مالك، وكذلك هو في موطإ ابن وهب. ورأيت في موطإ القعنبي عن بيع الحيوان باللحم، والمعنى واحد، وكلا الحديثين ـ أعني رواية الزهري وزيد بن أسلم ـ مرسل، ولم يسنده واحد عن سعيد. وقد روي من طرق أخر، منها عن الحسن عن سمرة: "أن النَّبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع الشاة باللحم" رواه الحاكم في المستدرك وقال: رواته عن آخرهم أئمة حفاظ ثقات. وقد احتج البخاري بالحسن عن سمرة، وله شاهد مرسل في الموطإ، هذا كلام الحاكم. ورواه البيهقي في سننه الكبير وقال: هذا إسناد صحيح. ومن أثبت سماع الحسن عن سمرة عده موصولًا. ومن لم يثبته فهو مرسل جيد انضم إلى مرسل سعيد. ومنها عن سهل بن سعد قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع اللحم بالحيوان" رواه الدارقطني وقال: تفرد به يزيد بن مروان عن مالك بهذا الإسناد ولم يتابع عليه. وصوابه في الموطإ عن ابن المسيب مرسلًا. وذكره البيهقي في سننه الصغير، وحكم بأن ذلك من غلط يزيد بن مروان، ويزيد المذكور تكلم فيه يحيى بن معين. وقال ابن عدي: وليس هذا بذلك المعروف. ومنها عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النَّبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع الحيوان باللحم" قال عبد الحق: أخرجه البزار في مسنده من رواية ثابت بن زهير عن نافع، وثابت رجل من أهل البصرة منكر الحديث لا يستقل به. ذكره أبو حاتم الرازي. انتهى محل الغرض من كلام صاحب تكملة المجموع. قال مقيده عفا الله عنه: لا يخفى أن هذا الذي ذكرنا يثبت به منع بيع اللحم بالحيوان. أما على مذهب من يحتج بالمرسل كمالك وأبي حنيفة وأحمد فلا إشكال وأما على مهذب من لا يحتج بالمرسل فمرسل سعيد بن المسيب حجة عند كثير ممن لا يحتج بالمرسل، ولا سيما أنه اعتضد بحديث الحسن عن سمرة. فعلى قول من يصحح سماع الحسن عن سمرة فلا إشكال في ثبوت ذلك، لأنه حينئذ حديث صحيح متصل وأما على قول من لا يثبت سماع الحسن عن سمرة ـ فأقل درجاته أنه مرسل صحيح، اعتضد بمرسل صحيح. ومثل هذا يحتج به من يحتج بالمرسل ومن لا يحتج به وقد قدمنا في "سورة المائدة" كلام العلماء في سماع الحسن عن سمرة، وقدمنا في "سورة الأنعام" أن مثل هذا المرسل يحتج به بلا خلاف عنه الأئمة الأربعة، فظهر بهذه النصوص أن بيع الحيوان باللحم من جنسه لا يجوز خلافًا لأبي حنيفة. وأما إن كان من غير جنسه كبيع شاة بلحم حوت، أو بيع طير بلحم إبل فهو جائز عند مالك، لأن المزابنة تنتفي باختلاف الجنس، وحمل معنى الحديث على هذا وإن كان ظاهره العموم. ومذهب الشافعي مع اختلاف الجنس فيه قولان: أحدهما ـ جواز بيع اللحم بالحيوان إذا اختلف جنسهما.
والثاني ـ المنع مطلقًا لعموم الحديث. ومذهب أحمد في المسألة ذكره ابن قدامة في المغني بقوله: وأما بيع اللحم بحيوان من غير جنسه فظاهر كلام أحمد والخرقي: أنه لا يجوز. فإن أحمد سئل عن بيع الشاة باللحم فقال: لا يصح، لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم "نهى أن يباع حتى بميت" واختار القاضي جوازه وللشافعي فيه قولان. واحتج من منعه بعموم الأخبار، وبأن اللحم كله جنس واحد ومن أجازه قال: مال الربا بيع بغير أصله ولا جنسه، فجاز كما لو باعه بالأثمان. وإن باعه بحيوان غير مأكول اللحم جاز في ظاهر قول أصحابنا، وهو قول عامة الفقهاء ـ انتهى كلام صاحب المغني ـ قال مقيده عفا الله عنه: قد عرفت مما تقدم أن بعض العلماء قال: إن اللحم كله جنس واحد. وبعضهم قال: إن اللحوم أجناس. فعلى أن اللحم جنس واحد ـ فمنع بيع الحيوان باللحم هو الظاهر. وعلى أن اللحوم أجناس مختلفة ـ فبيع اللحم بحيوان من غير جنسه الظاهر فيه الجواز. لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم" والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
اشترط المالكية في منع بيع الحيوان باللحم من جنسه: ألا يكون اللحم مطبوخًا. فإن كان مطبوخًا جاز عندهم بيعه بالحيوان من جنسه، وهو معنى قول خليل في مختصره. وفسد منهي عنه إلا بدليل كحيوان بلحم جنسه إن لم يطبخ. واحتجوا لذلك بأن الطبخ ينقل اللحم عن جنسه فيجوز التفاضل بينه وبين اللحم الذي لم يطبخ. فبيعه بالحيوان من باب أولى ـ هكذا يقولون والعلم عند الله تعالى.
المسألة الرابعة ـ اعلم أن ظاهر هذه الآية الكريمة يدل على أنه يجوز للرجل أن يلبس الثوب المكلل باللؤلؤ والمرجان. لأن الله جل وعلا قال فيها في معرض الامتنان العام على خلقه عاطفًا على الأكل {وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} وهذا الخطاب
خطاب الذكور كما هو معروف. ونظير ذلك قوله تعالى في سورة فاطر: {وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} وقال القرطبي في تفسيره: امنن الله سبحانه على الرجال والنساء امتنانًا عامًا بما يخرج من البحر، فلا يحرم عليهم شيء منه، وإنما حرم تعالى على الرجال الذهب والحرير. وقال صاحب الإنصاف: يجوز للرجل والمرأة التحلي بالجوهر ونحوه، وهو الصحيح من المذهب: وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يجوز للرجل أن يلبس الثوب المكلل باللؤلؤ مثلًا، ولا أعلم للتحريم مستندًا إلا عموم الأحاديث الواردة بالزجر البالغ عن تشبه الرجال بالنساء، كالعكس? قال البخاري في صحيحه: "باب المتشبهين بالنساء والمتشبهات بالرجال": حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال". فهذا الحديث نص صريح في أن تشبه الرجال بالنساء حرام، لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم لا يلعن أحدًا إلا على ارتكاب حرام شديد الحرمة. ولا شك أن الرجل إذ لبس اللؤلؤ والمرجان فقد تشبه بالنساء. فإن قيل: يجب تقديم الآية على هذا الحديث، وما جرى مجراه من الأحاديث من وجهين:
الأول ـ أن الآية نص متواتر، والحديث المذكور خبر آحاد، والمتواتر مقدم على الآحاد.
الثاني ـ أن الحديث عام في كل أنواع التشبه بالنساء، والآية خاصة في إباحة الحلية المستخرجة من البحر، والخاص مقدم على العام؟ فالجواب: أنا لم نر من تعرض لهذا. والذي يظهر لنا والله تعالى أعلم: أن الآية الكريمة وإن كانت أقوى سندًا وأخص في محل النزاع فإن الحديث أقوى دلالة على محل النزاع منها.
وقوة الدلالة في نص صالح للاحتجاج على محل النزاع أرجح من قوة السند. لأن قوله: {وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} يحتمل معناه احتمالًا قويًا: أن وجه الامتنان به أن نساءهم يتجملن لهم به، فيكون تلذذهم وتمتعهم بذلك الجمال والزينة الناشىء عن تلك الحلية من نعم الله عليهم. وإسناد اللباس إليهم لنفعهم به، وتلذذهم بلبس أزواجهم له. بخلاف الحديث فهو نص صريح غير محتمل في لعن من تشبه بالنساء. ولا شك أن المتحلي باللؤلؤ مثلًا متشبه بهن. فالحديث يتناوله بلا شك. وقال ابن حجر في فتح الباري في الكلام على الحديث المذكور، واستدل به على أنه يحرم على الرجال لبس الثوب المكلل باللؤلؤ، وهو واضح، لو ورد علامات التحريم وهو لعن فعل ذلك ـ: وأما قول الشافعي: ولا أكره للرجل لبس اللؤلؤ إلا لأنه من زي النساء فليس مخالفًا لذلك. لأن مراده أنه لم يرد في النهي عنه بخصوصه شيء.
المسألة الخامسة ـ لا يخفى أن الفضة والذهب يمنع الشرب في آنيتهما مطلقًا، ولا يخفى أيضًا أنه يجوز لبس الذهب والحرير للنساء ويمنع للرجال. وهذا مما لا خلاف فيه، لكثرة النصوص الصحيحة المصرحة به عن النَّبي صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين على ذلك، ومن شذ فهو محجوج بالنصوص الصريحة وإجماع من يعتد به من المسلمين على ذلك. وسنذكر طرفًا قليلًا من النصوص الكثيرة الواردة في ذلك.
أما الشرب في آنيتهما ـ فقد أخرج الشيخان والإمام أحمد وأصحاب السنن عن حذيفة رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "ولا تشربوا في آنية الذهب والفضَّة، ولا تأْكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة". ولفظة "ولا تأكلوا في صحافها" في صحيح مسلم: وعن أم سلمة رضي الله عنها أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم" متفق عليه. وفي رواية لمسلم: "إن الذي يأكل أو يشرب في إناء الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جنهم" والأحاديث بمثل هذا كثيرة.
وأما لبس الحرير والديباج الذي هو نوع من الحرير ـ فعن حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة" أخرجه الشيخان وباقي الجماعة وعن عمر رضي الله عنه سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تلبسوا الحرير فإن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" متفق عليه وعن أنس رضي الله عنه: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لبس الحرير في الدنيا فلن يلبسه في الآخرة" متفق عليه أيضًا. والأحاديث بمثل هذا كثيرة جدًا.