الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25)} إلى قوله تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)}التفسير:لما أورد على الكفار أنواع الدلائل أكدها بالقصص على عادته من التفنن في الكلام والنقل من أسلوب إلى أسلوب في الموعظة فبدأ بقصة نوح. ومعنى: {إني لكم} أي متلبسًا بهذا الكلام وهو قوله: {إني لكم} فلما اتصل به الجار فتح ومن كسر فعلى إرادة القول. و: {أن لا تعبدوا} بدل من: {إني لكم نذير} أي أرسلناه بأن لا تعبدوا: {إلا الله} أو يكون أن مفسرة متعلقة بأرسلنا أو بنذير.ووصف اليوم بأليم لوقوع الألم فيه فيكون مجازًا. وكذا لو جعل الوصف للعذاب والجر بالجوار. ثم حكى أنه طعن أشراف قومه في نبوته من ثلاث جهات. الأولى أنه بشر مثلهم. الثانية أنه لم يتبعه إلا الأراذل يعنون أصحاب الحرف الخسيسة كالحياكة وغيرها قالوا: لو كنت صادقًا لاتبعك الأكياس من الناس والأشراف منهم. والأراذل جمع أرذل. وقيل: جمع الأرذال جمع رذل وهو الدون من كل شيء في منظره وحالاته. ومعنى: {بادي الرأي} أول الرأي وهو نصب على الظرف أي اتبعك في ابتداء حدوث الرأي من غير روية، أو معناه ظاهر الرأي من قولك بدا الشيء إذا ظهر، ومنه البادية للبرية لظهروها وبروزها للناظر. وهذا تفسير من قرأ بغير همز. وعلى هذا فالمراد أنهم اتبعوك في الظاهر وباطنهم بخلافه، أو اتبعوك وقت حدوث ظاهر رأيهم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. ويجوز أن يتعلق: {بادي الرأي} بقوله: {أراذلنا} أي كونهم كذلك أمر ظاهر لكل من يراهم عيانًا، ويتأكد هذا التأويل بما نقل عن مجاهد أنه قرأ: {إلا الذين هم أراذلنا رأي العين} وإنما استرذلوا المؤمنين لاعتقادهم أن المزية عند الله سبحانه بالمال والجاه ولم يعلموا أن ذلك مبعد من الحق لا مقرب منه، وأن الأنبياء ما بعثوا إلا لترك الدنيا والإقبال على الآخرة فكيف يجعل قلة المال طعنًا في النبوة وفي متابعة النبي. الشبهة الثالثة: {وما نرى لكم علينا من فضل} لا في العقل ولا في كيفية رعاية المصالح ولا في قوة الجدل: {بل نظنكم كاذبين} خطاب لنوح ولمن آمن به بتبعيته، أو خطاب للأراذل كأنهم نسبوهم إلى الكذب في ادعاء الإيمان. ثم حكى ما أجاب به نوح قومه وهو أن حصول المساواة في صفة البشرية لا يمنع من حصول المفارقة في صفة النبوة وذلك قوله: {أرأيتم إن كنت على بينة} برهان: {من ربي وآتاني} بإيتاء تلك البينة: {رحمة} وعلى هذا البينة هي الرحمة، ويجوز أن يريد بالبينة المعجزة وبالرحمة النبوة وقيل بالعكس: {فعيمت} خفيت أو أخفيت البينة أو كل من البينة والرحمة أي صارت مظلمة مشتبهة في عقولكم. والبينة توصف بالإبصار والعمى مجازًا باعتبار نتيجتها كما أن دليل القوم إن كان بصيرًا اهتدوا وإن كان أعمى بقول خابطين متحيرين. ثم قال: {أنلزمكموها} أي أنكرهكم على قبول البينة: {وأنتم لها كارهون} والمراد أنا لا نقدر على إيصال حقيقة البينة إليك. وإنما يقدر على ذلك من هو قادر على الإيجاد والإعدام وتغيير الأحوال وتبديل الأخلاق. ثم ذكر أنه لا يطلب على تبليغ الرسالة مالًا حتى يتفاوت الحال بسبب كون المجيب غنيًا أو فقيرًا: {وما أنا بطارد الذين آمنوا} عن ابن جريج أنهم قالوا: إن أحببت يا نوح أن نتبعك فاطردهم فإنا لا نرضى بمشاركتهم، فلم يبذل ملتمسهم وعلل ذلك بقوله: {إنهم ملاقو ربهم} فيعاقب من يطردهم أو يلاقونه فيجازيهم على ما في قلوبهم من الإيمان الصحيح أو النفاق بزعمكم، أو المراد أنهم متقدون لقاء ربهم: {ولكني أراكم قومًا تجهلون} لقاء ربكم وأنهم خير منكم، أو قومًا تسفهون حيث تسمون المؤمنين أراذل.ثم أكد عدم طردهم بقوله: {ويا قوم من ينصرني من الله} من يمنعني من عقابه: {إن طردتهم} لأن العقل والشرع توافقا على أنه لابد من تعظيم المؤمن البر المتقي ومن إهانة الكافر الفاجر فكيف يليق بنبي الله أن يقلب هذه القضية. سؤال: إن كان طرد المؤمن لطلب مرضاة الكافر معصية فكيف فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نهي عنه بقوله: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم}؟ الجواب أنه لم يكن ذلك طردًا مطلقًا وإنما عين لأجلهم أوقاتًا مخصوصة، ولأشراف قريش أوقاتًا أخرى فعوتب على ذلك القدر. احتجت المعتزلة بالآية على عدم الشفاعة للفاسق إذ لو كانت جائزة لكانت في حق نوح أولى، فلم يقل من الذي يخلصني من عذابه. وأجيب بأنه مخصوص بآيات العفو. ثم ذكر أنه كما لا يسألهم مالًا فإنه لا يدعي أن عنده خزائن الله حتى يجحدوا أن له فضلًا عليهم من هذه الجهة: {ولا أعلم الغيب} حتى أصل به إلى ما أريده لنفسي ولأتباعي وأطلع على الضمائر: {ولا أقول إني ملك} أتعظم بذلك عليكم بل طريقي الخضوع والتواضع وعدم الاستنكاف عن مخالطة الفقراء وقد مر في الأنعام سائر ما يتعلق بالآية. ومعنى: {تزدري} تعيب وتحقر والازدراء افتعال من زرى عليه إذا عابه. وفي قوله تعالى: {الله أعلم بما في أنفسهم} دلالة على أنهم كانوا ينسبون اتباعه مع الفقر والذلة الى النفاق: {إني إذا} أي إن قلت شيئًا من ذلك كنت من الظالمين لنفسي. أو إن قلت إن الله لن يؤتيهم خيرًا مع أنه لا وقوف لي على باطنهم. ثم إن قومه وصفوه بكثرة الجدال قائلين: {يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا} قال أهل المعاني: أردت جدالنا وشرعت فيه فأكثرته كقوله: جاد لي فلان فأكثر. لم ترد أنه أعطى عطيتين أقل فأكثر بل تريد أن الوصف مقارن للموصوف. وفي الآية دلالة على أن الجدال في تقرير دلائل التوحيد من دأب أكابر الأنبياء. ثم استعجلوا العذاب الذي كان يتوعدهم به فأجاب نبي الله بأن ذلك ليس إليّ وإنما هو بمشيئة الله وإرادته ولا يعجزه عن ذلك أحد. وقوله: {ولا ينفعكم نصحي} كقول القائل لامرأته: أنت طالق إن دخلت الدار إن أكلت الخبز لم يقع الطلاق إلا إذا دخل الدار فأكل الخبز.ولهذا قال الفقهاء: المؤخر في اللفظ مقدم في المعنى فكأنه قيل: {إن كان الله يريد أن يغويكم} فإن أردت أن أنصح لكم لم ينفعكم نصحي. واحتجاج الأشاعرة بالآية ظاهر. وأجابت المعتزلة بأنه لا يلزم من فرض أمر وقوعه، ولعل نوحًا إنا قال ذلك ليبين لهم أنه تعالى بنى أمر التكليف على الاختيار وإلا لم يكن للنصح فائدة، ولو تشبث الخصم بالجبر لزم إفحام النبي. ومن الجائز أن يراد بالإغواء التعذيب من غوى الفصيل إذا بشم فهلك، أو يراد به الخيبة كقوله: {فسوف يلقون غيًا} [مريم: 59] أي خيبة من خير الآخرة، أو يراد به منع الألطاف وقد تقدم أمثال ذلك مرارًا. ثم أشار إلى المبدإ والمعاد بقوله: {هو ربكم وإليه ترجعون} ثم أنكر الله سبحانه عليهم قولهم إنما ادعاء نوح أنه أوحي إليه مفترى فقال: {أم يقولون افتراه} فأمره بأن يجيب بكلام منصف وهو قوله: {قل إن افتريته فعليّ إجرامي} أي عقاب إثمي وهو الافتراء: {وأنا بريء مما تجرمون} أي من إجرامكم وهو إسناد الافتراء إليّ وهاهنا إضمار كأنه قيل: لكني ما افتريته فالإجرام وعقابه عليكم وأنا بريء منه. وأكثر المفسرين على أن هذه الآية من تمام قصة نوح. وعن مقاتل أنها من قصة محمد صلى الله عليه وسلم وقعت في أثناء قصة نوح.قوله سبحانه: {وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن} إقناط له من إيمانهم الذي كان يتوقعه منهم بدليل قوله: {إلا من قد آمن} فإن قد للتوقع. وقوله: {فلا تبتئس} تسلية له أي لا تحزن بما فعلوه من تكذيبك وإيذائك فقد حان وقت الانتقام منهم. قال أكثر المعتزلة: إنه لا يجوز أن ينزل الله عذاب الاستئصال على قوم يعلم أن فيهم من يؤمن أو في أولادهم من يؤمن بدليل دعاء نوح: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارًا} [نوح: 26] إلى قوله: {إلا فاجرًا كفارًا} [نوح: 27] علل الإهلاك بمجموع الأمرين فدل ذلك على أنهما لو لم يحصلا لم يجز الإهلاك. وذهب كثير منهم إلى الجواز، فليس كل خبر معلوم بواجب الوقوع نعم كلما يقع يجب أن يكون على الوجه الأصلح. ومذهب الأشاعرة في هذا المعنى ظاهر فله أن يفعل في ملكه ما شاء. ثم عرفه وجه إهلاكهم وألهمه وجه خلاص من آمن فقال: {واصنع الفلك} وهو أمر إيجاب على الأظهر لأنه لا سبيل إلى صون روحه عن الهلاك في الطوفان إلا بذلك، وصون النفس واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وقيل: أمر إباحة كمن أمر أن يتخذ الإنسان لنفسه دارًا يسكنها. والإنصاف أن الأمر ظاهره الوجوب وإن قطعنا النظر عن فائدته وغايته. وقوله: {بأعيننا ووحينا} في موضع الحال أي متلبسًا بذلك.والسبب فيه أن إقدامه على صنعة السفينة مشروط بأمرين: أحدهما أن لا يمنعه أعداؤه عن ذلك العمل وأشار إليه بقوله: {بأعيننا} وليست العين بمعنى الجارحة لأنه منزه عن الجوارح والأعضاء فالمراد بها الحفظ والحياطة والكلاءة لأن العين آلة الحفظ والحراسة. والثاني أن يكون عالمًا بكيفية تركيب الأخشاب ونحتها. عن ابن عباس: لم يعلم كيف صنعة الفلك فأوحى الله تعالى إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر. وقيل: المراد عين الملك الذي كان يعرّفه كيفية اتخاذ السفينة. ثم قال: {ولا تخاطبني في الذين ظلموا} أي في شأنهم. وقيل: علل عدم الخطاب بقوله: {إنهم مغرقون} أي إنهم محكوم عليهم بالإغراق وقد جف القلم عليهم بذلك فلا فائدة للشفاعة. وقيل: لا تخاطبني في تعجيل عقابهم فإنهم يغرقون في الوقت المعين لذلك فلا فائدة في الاستعجال فلكل أمة أجل. وقيل: المراد بالذين ظلموا امرأته واعلة وكنعان ابنه. ثم حكى الحال الماضية بقوله: {ويصنع الفلك} الحال أنه: {كلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه} يحتمل أن يكون هذا جوابًا ل {كلما} وقوله: {قال إن تسخروا} استئناف على تقدير سؤال سائل كأنه قيل: ماذا قال حينئذٍ؟ ويحتمل أن يكون: {سخروا} بدلًا من: {مر} أو صفة ل: {ملأ} و: {قال} جواب: {قيل} كانوا يقولون: يا نوح كنت نبيًا فصرت نجارًا، ولو كنت صادقًا في دعواك لكان إلهك يغنيك عن هذا العمل الشاق. وقيل: إنهم ما رأوا السفينة قبل ذلك فكانوا يتعجبون ويسخرون. وقيل: إنها كانت كبيرة وكان يصنعها في مفازة بعيدة عن الماء فكانوا يقولون هذا من باب الجنون. وقيل: طالت مدته وكان ينذرهم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة وليس منه عين ولا أثر فغلب على ظنونهم كونه كاذبًا فيسخرون منه فأجابهم بقوله: {إن تسخروا منا} في الحال: {فإنا نسخر منكم} في المستقبل إذا وقع عليكم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة. أو إن حكمتم علينا بالجهل فيما نصنع فإنا نحكم عليكم بالجهل فيما أنتم عليه من الكفر والتعرض لسخط الله، أو إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم في استجهالكم لأنكم لا تستجهلون إلا عن الجهل بحقيقة الأمر. والبناء على ظاهر الحال كما هو عادة الأغمار. وسمي جزاء السخرية سخرية كقوله: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى: 40] ثم هددهم بقوله: {فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه} من الدنيا وهو عذاب الغرق: {ويحل عليه عذاب مقيم} في الآخرة لازم لزوم الدين الحال للغريم. و{من} موصولة أو استفهامية وقد مر في الأنعام. روي أن نوحًا عليه السلام اتخذ السفينة في سنتين وكان طولها ثلثمائة ذراع وعرضها خمسين ذراعًا وارتفاعها ثلاثين. وكانت من خشب الساج، وجعل لها ثلاثة بطون: الأسفل للوحوش والسباع والهوام، والأوسط للدواب والأنعام، والأعلى للناس ولما يحتاجون إليه من الزد وحمل معه جسد آدم. وقال الحسن: كان طولها ألفًا ومائتي ذراع وعرضها ستمائة.قوله: {حتى إذا جاء أمرنا} هي غاية لقوله: {ويصنع الفلك} أي كان يصنعها إلى أن جاء وقت الأمر بالإهلاك: {وفار التنور} أي نبع الماء من بشدة وسرعة تشبيهًا بغليان القدر. والتنور هي التي يختبز فيها فقيل: هو ما استوى فيه العربي والعجمي. وقيل: معرب لأنه لا يعرف في كلام العرب نون قبل راء. عن ابن عباس والحسن ومجاهد: هو تنور نوح. وقيل: كان لآدم وحواء حتى صار لنوح وموضعه بناحية الكوفة قاله مجاهد والشعبي. وعن علي رضي الله عنه أنه في مسجد الكوفة وقد صلى فيه سبعون نبيًا. وقيل: بالشام بموضع يقال له عين وردة قاله مقاتل. وقيل: بالهند. روي أن امرأته كانت تخبز فأخبرته بخروج الماء من ذلك التنور فاشتغل في تلك الحال بوضع الأشياء في السفينة وكان الله تعالى جعل هذه الحالة علامة لواقعة الطوفان. ويروى عن علي رضي الله عنه أيضًا أن المراد بالتنور وجه الأرض لقوله: {وفجرنا الأرض عيونًا} [القمر: 12] وعنه أيضًا كرم الله وجهه أن معنى: {فار التنور} طلع الصبح. وقيل: معناه اشتد الأمر كما يقال حمي الوطيس. والمراد إذا رأيت الأمر يشتد والماء يكثر فاركب في السفينة وذلك قوله: {قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين} والزوجان شيئان يكون أحدهما ذكرًا والآخر أنثى. فمن قرأ بالإضافة فمعناه احمل من كل صنفين بهذا الوصف اثنين، ومن قرأ بالتنوين. فالمراد حمل من كل شيء زوجين. واثنين للتأكيد ولا يبعد أن يكون النبات داخلًا فيه لاحتياج الناس إليه: {وأهلك} معطوف على مفعول: {احمل} وكذا: {من آمن} وقوله: {إلا من سبق عليه القول} قال الضحاك: أراد ابنه وامرأته قدر الله لهما الكفر إذا علم منهما ذلك. ثم قال: {وما آمن معه إلا قليل} أي نفر قليل: عن مقاتل أنهم ثمانون وبهم سموا قرية الثمانين بناحة الموصل لأنهم لما خرجوا من السفينة بنوها. وقيل: اثنان وسبعون رجلًا وامرأة، وأولاد نوح: سام وحام ويافث ونساؤهم. فالجميع ثمانية وسبعون نصفهم رجال ونصفهم نساء. وعن محمد بن إسحق كانوا عشرة، وعن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا ثمانية، نوح وأهله وبنوه الثلاثة ونساؤهم. وقيل في بعض الروايات: إن إبليس دخل معه السفينة وفيه بعد لأنه جسم ناري فلا يؤثر الغرق فيه.قوله سبحانه وتعالى حكاية عن نوح وأهله: {وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرسيها} الآية. فيه أبحاث الأول: أن الركوب متعد بنفسه يقال: ركبت الدابة والبحر والسفينة أي علوتها. فما الفائدة في زيادة لفظة في؟ قال الواحدي: فائدته أن يعلم أنه أمرهم بأن يكونوا في جوف الفلك لا على ظهره.الثاني قوله: {بسم الله} إما أن تتعلق بقوله: {اركبوا} حالًا من الواو أي مسمين الله، أو قائلين باسم الله: {ومجريها ومرسيها} مصدران حذف منهما الوقت المضاف كقولهم: جئتك خفوق النجم ومقدم الحاج، أو يراد مكان الإجراء والإرساء أو زمانها. وانتصابهما بما في بسم الله من معنى الفعل، أو بالقول المقدر. وعلى التقادير يكون مجموع قوله: {وقال اركبوا} إلى قوله: {ومرساها} كلامًا واحدًا. وإما أن يكون: {باسم الله مجريها ومرساها} كلامًا آخر من مبتدإ وخبر أي باسم الله إجراؤها وإرساؤها. يروى أنه كان إذا أراد أن تجري قال بسم الله فجرت، وإذا أراد أن ترسو قال بسم الله فرست. ويجوز أن يقحم الاسم كقوله: تم اسم السلام عليكما، ويراد بالله إجراؤها وإرساؤها، وكان نوح أمرهم بالركوب أوّلًا ثم أخبرهم بأن إجراءها وإرساءها بذكر اسم الله أو بأمره وقدرته. وجوز في الكشاف أن تكون هذه الجملة في موضع الحال من ضمير الفلك ولا تكون جملة مستأنفة ولكن فضلة من تتمة الكلام الأول كأنه قال اركبوا فيها مقدرين أن إجراءها وإرساءها باسم لله تعالى. يقال: رسا الشيء يرسو إذا ثبت، وأرساه غيره. يروى أنها سارت لأول يوم من رجب أو لعشر مضين منه فسارت ستة أشهر ثم استوت على الجودي يوم العاشر من المحرم. ويروى أنها مرت بالبيت وطافت به سبعًا فأعقتها الله من الغرق. البحث الثالث قوله: {إن ربي لغفور رحيم} كيف ناسب مقام الإهلاك وإظهار العزة؟ والجواب كان القوم اعتقدوا أنهم نجوا ببركة إيمانهم وعملهم، فنبههم الله تعالى بهذا الذكر على أن الإنسان في كل حال من أحواله لا ينفك عن ظلمات الخطأ والزلل فيحتاج إلى مغفرة الله ورحمته. وفي الآية إشارة إلى أن العاقل إذ ركب في سفينة الفكر ينبغي أن يكون قد برئ من حوله وقوته وقطع النظر عن الأسباب وربط قلبه وعلق همته بفضل واهب العقل بلسان الحال بسم الله مجريها ومرسيها حتى تصل سفينة فكره إلى ساحل الإيقان، وتتخلص عن أمواج الشبه والظنون والأوهام.قال في الكشاف: {وهي تجري بهم} متصل بمحذوف كأنه قيل: فركبوا فيها يقولون باسم الله وهي تجري بهم وهم فيها: {في موج كالجبال} في التراكم والارتفاع، فلعل الأمواج أحاطت بالسفينة من الجوانب فصارت كأنها في داخل تلك الأمواج. واختلف المفسرون في قوله: {ونادى نوح ابنه} فالأكثرون على أنه ابن له في الحقيقة لئلا يلزم صرف الكلام عن الحقيقة الى المجاز من غير ضرورة، ولا استبعاد في كون ولد النبي كافرًا كعكسه. واعترض عل هذا القول بأنه كيف ناداه مع كفره وقد قال: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارًا} [نوح: 26] وأجيب بأنه كان منافقًا وظن نوح أنه مؤمن أو ظن أنه كافر إلا أنه توقع منه الإيمان عند مشاهدة العذاب بدليل قوله: {ولا تكن مع الكافرين} أو لعل شفقة الأبوة حملته على ذلك النداء.وعن محمد بن علي الباقر والحسن البصري أنه كان ابن امرأته ويؤيده ما روي أن عليًا رضي الله عنه قرأ: {ونادى نوح ابنها} ويؤكد هذا الظن قوله: {إن ابني من أهلي} دون أن يقول إنه مني وقيل: إنه ولد على فراشه لغير رشده وإليه الإشارة بقوله تعالى: {فخانتاهما} [التحريم: 10] ورد هذا القول بأنه يجب صون منصب الأنبياء عن مثل هذه الفضيحة لقوله: {الخبيثات للخبيثين} [النور: 26] وفسر ابن عباس تلك الخيانة بأن امرأة نوح كانت تقول زوجي مجنون. وامرأة لوط دلت الناس على ضيفه. وقوله: {وكان في معزل} هو مفعل من عزله عنه إذا نحاه أو أبعده أي كان في مكان عزل فيه نفسه عن أبيه وعن السفينة وعمن فيها، أو كان في معزل عن دين أبيه. وقيل في معزل عن الكفار ولهذا ظن نوح أنه يريد مفارقة الكفرة، ولكن قوله: {ولا تكن مع الكافرين} لا يساعد هذا القول. وقوله: {يا بني} بكسر الياء لأجل الاكتفاء به عن ياء الإضافة، وبفتحها اكتفاء به عن الألف المبدلة من الياء، ويجوز أن يكون الياء والألف ساقطتين من اللفظ فقط لالتقاء الساكنين. ثم حكى إصرار ابنه على الكفر بأن قال: {سآوي إلى جبل} فأجاب نوح بأنه: {لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم} واعترض عليه بأن معنى: {من رحم} من رحمه الله وهو معصوم فكيف يصح استثناؤه من العاصم؟ وأجيب بأن من فاعلة في المعنى لا مفعول، والمراد نوح لأنه سبب الرحمة والنجاة كما أضيف الإحياء إلى عيسى عليه السلام، أو الرحيم الذي مر ذكره في قوله: {إن ربي لغفور رحيم} وهو عاصم لا معصوم، أو هو استثناء مفرغ والتقدير لا عاصم اليوم لأحد من أمر الله إلا لمن رحم، أو العاصم بمعنى ذو العصمة كلابن وتامر. وذو العصمة المعصوم أو المضاف محذوف والتقدير لا عاصم قط إلا مكان من رحمهم الله ونجاهم يعني السفينة، أو هو استثناء منقطع كأنه قيل: ولكن من رحمه الله فهو المعصوم: {وحال بينهما الموج} أي بسبب هذه الحيلولة خرج من أن يخاطبه نوح فصار من جملة الغرقى.
|