الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
الثاني: أن معناهما مختلف، فأسرى إذا سار من أول الليل، وسرى إذا سار في آخره، ولا يقال في النهار إلا سار، قال لبيد:
{بقطعٍ من الليل} فيه أربعة تأويلات:أحدها: معناه سواد الليل، قاله قتادة.الثاني: أنه نصف الليل مأخوذ من قطعه نصفين، ومنه قول الشاعر: الثالث: أنه الفجر الأول، قاله حميد بن زياد. الرابع: أنه قطعة من الليل، قاله ابن عباس: {ولا يلتفت منك أحد} فيه ثلاثة تأويلات:أحدها: لا ينظر وراءه منكم أحد، قاله مجاهد. الثاني: يعني لا يتخلف منك أحد، قاله ابن عباس:الثالث: يعني لا يشتغل منكم أحد بما يخلفه من مال أو امتناع، حكاه علي بن عيسى.{إلا امرأتك إنّه مُصيبها ما أصابهم} فيه وجهان:أحدهما: أن قوله: {إلا امرأتك} استثناء من قوله: {فأسر بأهلك بقطع من الليل الا امرأتك} وهذا قول من قرأ: {إلا امرأتك} بالنصب.الثاني: أنه استثناء من قوله: {ولا يلتفت منك أحد إلا امرأتك} وهو على معنى البدل إذا قرئ بالرفع.{إنه مصيبها ما أصابهم} فذكره قتادة أنها خرجت مع لوط من القرية فسمعت الصوت فالتفتت، فأرسل الله عليهم حجرًا فأهلكها: {إنّ موعدهم الصبح أليْسَ الصُّبحُ بقريبٍ} فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن لوطًا لما علم أنهم رسل ربه قال: فالآن إذن فقال له جبريل عليه السلام: {إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب}». ويجوز أن يكون قد جعل الصبح ميقاتًا لهلاكهم لأن النفوس فيه أودع والناس فيه أجمع.قوله عز وجل: {فلمّا جاء أمرُنا} فيه ثلاثة أوجه:أحدها: أنه أمر الله تعالى للملائكة. الثاني: أنه وقوع العذاب بهم.الثالث: أنه القضاء بعذابهم.{جعلنا عاليَها سافلَها} قال محمد بن كعب القرظي إن الله تعالى بعث جبريل إلى مؤتفكات قوم لوط فاحتملها بجناحه ثم صعد بها حتى إن أهل السماء يسمعون نباح كلابهم وأصوات دجاجهم، ثم قلبها فجعل عاليها سافلها وأتبعها بحجارة من سجّيل حتى أهلكها وما حولها، وكن خمسًا: صبغة ومقرة وعمرة ودوما وسدوم وهي القرية العظمى.وقال قتادة: كانوا في ثلاث قرى يقال لها سدوم بين المدينة والشام وكان فيها أربعة آلاف ألف.{وأمطرنا عليها حجارة من سجّيل} فيه ثمانية تأويلات: أحدها: أنه فارسي معرب وهو سنك وكيل فالسنك: الحجر، والكيل الطين، قاله ابن عباس.الثاني: أنه طين قد طبخ حتى صار كالأرحاء، ذكره ابن عيسى.الثالث: أنه الحجارة الصلبة الشديدة، قاله أبو عبيدة وأنشد قول ابن مقبل: إلا أن النون قلبت لامًا.الرابع: من سجيل يعني من سماء اسمها سجيل، قاله ابن زيد.الخامس: من سجيل من جهنم واسمها سجين فقلبت النون لامًا.السادس: أن السجيل من السجل وهو الكتاب وتقديره من مكتوب الحجارة التي كتب الله تعالى أن يعذب بها أو كتب عليها، وفي التنزيل: {كلا إن كتاب الفجار لفي سجين وما أدراك ما سجين كتاب مرقوم} [المطففين: 7-9] السابع: أنه فِعِّيل من السجل وهو الإرسال، يقال أسجلته أي أرسلته، ومنه سمي الدلو سجلًا لإرساله فكان السجل هو المرسل عليهم.الثامن: أنه مأخوذ من السجل الذي هو العطاء، يقال سجلت له سجلًا من العطاء، فكأنه قال سُجلوا البلاء أي أعطوه.{منضود} فيه تأويلان:أحدهما: قد نُضَّد بعضه على بعض، قال الربيع.الثاني: مصفوف، قاله قتادة.قوله عز وجل: {مسومة عند ربك} والمسومة: المعلّمة، مأخوذ من السيماء وهي العلامة، قال الشاعر: وفي علامنها قولان:أحدهما: أنها كانت مختمة، على كل حجر منها اسم صاحبه.الثاني: معلمة ببياض في حمرة، على قول ابن عباس، وقال قتادة: مطوقة بسواد في حمرة.{عند ربك} فيه وجهان:أحدهما: في علم ربك، قال ابن بحر.الثاني: في خزائن ربك لا يملكها غيره ولا يتصرف فيها أحد إلا بأمره: {وما هي من الظالمين ببعيد} فيه أربعة أوجه:أحدها: أنه ذكر ذلك وعيدًا لظالمي قريش، قاله مجاهد.الثاني: وعيد لظالمي العرب، قال عكرمة.الثالث: وعيد لظالمي هذه الأمة، قاله قتادة.الرابع: وعيد لكل ظالم، قاله الربيع. وفي الحجارة التي أمطرت قولان:أحدهما: أنه أمطرت على المدن حين رفعها. الثاني: أنها أمطرت على من لم يكن في المدن من أهلها وكان خارجًا عنها. اهـ. .قال ابن عطية: {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ}الضمير في: {قالوا} ضمير الملائكة، ويروى أن لوطًا لما غلبوه وهموا بكسر الباب وهو يمسكه قالت له الرسل: تنح عن الباب: فتنحى وانفتح الباب فضربهم جبريل عليه السلام بجناحه فطمس أعينهم وعموا، وانصرفوا على أعقابهم يقولون: النجاء النجاء، فعند لوط قوم سحرة، وتوعدوا لوطًا، ففزع حينئذ من وعيدهم، فحينئذ قالوا له: {إنا رسل ربك} فأمن، ذكر هذا النقاش؛ وفي تفسير غيره ما يقتضي أن قولهم: {إنا رسل ربك} كان قبل طمس العيون، ثم أمروه بالسرى وأعلموه أن العذاب نازل بالقوم، فقال لهم لوط: فعذبوهم الساعة، قالوا له: {إن موعدهم الصبح} أي بهذا أمر الله، ثم أنسوه في قلقه بقولهم: {أليس الصبح بقريب}.وقرأ نافع وابن كثير {فأسر} من سرى إذا سار في أثناء الليل، وقرأ الباقون: {فاسرِ} إذا سار في أول الليل و{القطع} القطعة من الليل، ويحتمل أن لوطًا أسرى بأهله من أول الليل حتى جاوز البلد المقتلع، ووقعت نجاته بسحر فتجتمع هذه الآية مع قوله: {إلا آل لوط نجيناهم بسحر} [القمر: 34] وبيت النابغة جمع بين الفعلين في قوله: [البسيط]فذهب قوم إلى أن سرى وأسرى بمعنى واحد واحتجوا بهذا البيت.قال القاضي أبو محمد: وأقول إن البيت يحتمل المعنيين، وذلك أظهر عندي لأنه قصد وصف هذه الديمة، وأنها ابتدأت من أول الليل وقت طلوع الجوزاء في الشتاء.وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {إلا امرأتُك} بالرفع على البدل من: {أحد} وهذا هو الأوجه إذا استثني من منفي، كقولك: ما جاءني أحد إلا زيد، وهذا هو استثناء الملتفتين، وقرأ الباقون: {إلا أمرأتَك} بالنصب، ورأت ذلك فرقة من النحاة الوجه في الاستثناء من منفي، إذ الكلام المنفي في هذا مستقل بنفسه كالموجب، فإذ هو مثله في الاستقلال، فحكمه كحكمه في نصب المستثنى؛ وتأولت فرقة ممن قرأ: {إلا امرأتَك} بالنصب أن الاستثناء وقع من الأهل كأنه قال: {فأسر بأهلك إلا امرأتَك}. وعلى هذا التأويل لا يكون إلا النصب، وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: لو كان الكلام: {ولا يلتفتُ}- بالرفع- لصح الرفع في قوله: {إلا أمرأتُك} ولكنه نهي، فإذا استثنيت {المرأة} من: {أحد} وجب أن تكون {المرأة} أبيح لها الالتفات فيفسد معنى الآية.قال القاضي أبو محمد: وهذا الاعتراض حسن، يلزم الاستثناء من: {أحد} رفعت التاء أو نصبت والانفصال عنه يترتب بكلام حكي عن المبرد، وهو أن النهي إنما قصد به لوط وحده، و{الالتفات} منفي عنهم بالمعنى، أي لا تدع أحدًا منهم يلتفت، وهذا كما تقول لرجل: لا يقم من هؤلاء أحد إلا زيد، وأولئك لم يسمعوك، فالمعنى: لا تدع أحدًا من هؤلاء يقوم والقيام بالمعنى منفي عن المشار إليهم.قال القاضي أبو محمد: وجملة هذا أن لفظ الآية هو لفظ قولنا: لا يقم أحد إلا زيد، ونحن نحتاج أن يكون معناها معنى قولنا: لا يقم أحد إلا زيد وذلك اللفظ لا يرجع إلى هذا المعنى إلا بتقدير ما حكيناه عن المبرد، فتدبره. ويظهر من مذهب أبي عبيد أن الاستثناء، إنما هو من الأهل. وفي مصحف ابن مسعود: {فأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك} وسقط قوله: {ولا يلتفت منكم أحد}. والظاهر في: {يلتفت} أنها من التفات البصر، وقالت فرقة: هي من لفت الشيء يلفته إذا ثناه ولواه، فمعناه: ولا يتثبط. وهذا شاذ مع صحته وفي كتاب الزهراوي: أن المعنى: ولا يلتفت أحد إلى ما خلف، بل يخرج مسرعًا مع لوط عليه السلام: وروي أن امرأة لوط لما سمعت الهدة ردت بصرها وقالت: واقوماه، فأصابها حجر فقتلها.وقرأت فرقة: {الصبُح} بضم الباء.{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا}روي أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت مدائن قوم لوط واقتلعها ورفعها حتى سمع أهل السماء الدنيا صراخ الديكة ونباح الكلاب، ثم أرسلها معكوسة، وأتبعهم الحجارة من السماء، وروي أن جبريل عليه السلام أخذهم بخوافي جناحه: ويروى أن مدينة منها نجيت كانت مختصة بلوط عليه السلام يقال لها: زغر.و: {أمرنا} في هذه الآية يحتمل أن يكون مصدرًا من أمر ويكون في الكلام حذف مضاف تقديره مقتضى أمرنا، ويحتمل أن يكون واحد الأمور، والضمير في قوله: {عاليها سافلها} للمدن، وأُجري: {أمطرنا} عليها كذلك، والمراد على أهلها، وروي أنها الحجارة استوفت منهم من كانوا خارج مدنهم حتى قتلتهم أجمعين. وروي أنه كان منهم في الحرم رجل فبقي حجره معلقًا في الهواء حتى خرج من الحرم فقتله الحجر، و{أمطر} أبدًا إنما يستعمل في المكروه، ومطر يستعمل في المحبوب، هذا قول أبي عبيدة.قال القاضي أبو محمد: وليس كذلك وقوله تعالى: {هذا عارض ممطرنا} [الأحقاف: 24] يرد هذا القول لأنهم إنما ظنوه معتاد الرحمة، وقوله: {من سجيل} اختلف فيه: فقال ابن زيد: {سجيل}: اسم السماء الدنيا.قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، ويرده وصفه ب: {منضود}. وقالت فرقة هو مأخوذ من لفظ السجل، أي هي من أمر كتب عليهم.قال القاضي أبو محمد: وهذا بعيد، وقالت فرقة: هو مأخوذ من السجل إذا أرسل الشيء كما يرسل السجل وكما تقول: قالها مسجلة.قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، وقالت فرقة: {من سجيل} معناه: من جهنم لأنه يقال: سجيل وسجين حفظ فيها بدل النون لامًا، كما قالوا: أصيلال وأصيلان. وقالت فرقة: {سجيل} معناه: شديد وأنشد الطبري في ذلك [ابن مقبلٍ]: والبيت في قصيدة نونية: سجينا، وقالت فرقة: {سجيل} لفظة أصلها غير عربية عربت أصلها سنج وكل. وقيل غير هذا في أصل اللفظة. ومعنى هذا اللفظ ماء وطين. هذا قول ابن عباس ومجاهد وابن جبير وعكرمة والسدي وغيرهم، وذهبت هذه الفرقة إلى أن الحجارة التي رموا بها كانت كالآجر المطبوخ كانت من طين قد تحجر- نص عليه الحسن-.قال القاضي أبو محمد: وهذا قول يشبه. وهو الصواب الذي عليه الجمهور. وقالت فرقة: معنى: {سجيل} حجر مخلوط بطين أي حجر وطين. قال القاضي أبو محمد: ويمكن أن يرد هذا إلى الذي قبله، لأن الآجر وما جرى مجراه يمكن أن يقال فيه حجر وطين لأنه قد أخذ من كل واحد منهما بحظه. هي طين من حيث هو أصلها. وحجر من حيث صلبت.و: {منضود} معناه بعضه فوق بعض.أي تتابع؛ وهي صفة ل: {سجيل} وقال الربيع بن أنس: نضده: إنه في السماء منضود معد بعضه فوق بعض.و: {مسومة} معناه معلمة بعلامة، فقال عكرمة وقتادة: إنه كان فيها بياض وحمرة: ويحكى أنه كان في كل حجر اسم صاحبه، وهذه اللفظة هي من سوم إذا أعلم، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: «سوموا فقد سومت الملائكة» ويحتمل أن تكون: {مسومة} هاهنا بمعنى: مرسلة، وسومها من الهبوط.وقوله: {وما هي} إشارة إلى الحجارة. و: {الظالمين} قيل: يعني قريشًا. وقيل: يريد عموم كل من اتصف بالظلم، وهذا هو الأصح لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سيكون في أمتي خسف ومسخ وقذف بالحجارة».، وقد ورد أيضًا حديث: «إن هذه الأمة بمنجاة من ذلك» وقيل يعني ب: {هي}: المدن، ويكون المعنى: الإعلام بأن هذه البلاد قريبة من مكة- والأول أبين- وروي أن هذه البلاد كانت بين المدينة والشام، وحكى الطبري في تسمية هذه المدن: صيعة، وصعدة وعمزة، ودوما وسدوم وهي القرية العظمى. اهـ. .قال القرطبي: قوله تعالى: {قَالُواْ يا لوط إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ}لما رأت الملائكة حزنه واضطرابه ومدافعته عرّفوه بأنفسهم، فلما علم أنهم رسلٌ مكّن قومه من الدخول، فأمرّ جبريل عليه السلام يده على أعينهم فعموا، وعلى أيديهم فجفّت.{لَن يصلوا إِلَيْكَ} أي بمكروه: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} قرئ {فاسر} بوصل الألف وقطعها؛ لغتان فصيحتان.قال الله تعالى: {والليل إِذَا يَسْرِ} [الفجر: 4] وقال: {سُبْحَانَ الذي أسرى} [الإسراء: 1] وقال النابغة: فجمع بين اللغتين:وقال آخر: وقد قيل: {فَأَسْرِ} بالقطع إذا سار من أوّل الليل، وسرى إذا سار من آخره؛ ولا يقال في النهار إلا سار.وقال لبيد: وقال عبد الله بن رَوَاحَةَ: قوله تعالى: {بِقِطْعٍ مِّنَ الليل} قال ابن عباس: بطائفة من الليل.الضحّاك: ببقية من الليل.
|