الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.الفائدة الثالثة: في أسماء كتاب الله: اعلم أن لكتاب الله تعالى أسماء أنهاها شيدلة في البرهان إلى خمسة وخمسين اسما وذكر السيوطي بعد عدها في الإتقان وجوه تسميته بها ولم يذكر غير ذلك وعندي أنها كلها ترجع بعد التأمل الصادق إلى القرآن والفرقان رجوع أسماء الله تعالى إلى صفتي الجمال والجلال فهما الأصل فيها وقد أختلف الناس في تحقيق لفظ القرآن فالمروي عن الشافعي وبه قال جماعة أنه اسم علم غير مشتق خاص بهذا الكلام المنزل على النبي المرسل صلى الله عليه وسلم وهو معرفا غير مهموز عنده كما حكاه عنه البيهقي والخطيب وغيرهما والمنقول عن الأشعري وأقوام أنه مشتق من قرنت الشيء إذا ضممته إليه وسمى به عندهم لقران السور والآيات والحروف فيه بعضها ببعض وقال الفراء هو مشتق من القرائن لأن الآيات فيه يصدق بعضها بعضا ويشبه بعضها بعضا وهو على هذين القولين بلا همز أيضا ونونه أصلية وقال الزجاج هذا القول غلط والصواب أن ترك الهمزة فيه من باب التخفيف ونقل حركتها إلى ما قبلها فهو عنده وصف مهموز على فعلان مشتق من القرء بمعنى الجمع ومنه قرأت الماء في الحوض إذا جمعته وسمى به لأنه جمع السور كما قال أبو عبيدة أو ثمرات الكتب السالفة كما قال الراغب أو لأن القارئ يظهره من فيه أخذا من قولهم ما قرأت الناقة سلى قط كما حكى عن قطرب وعند اللحياني وجماعة هو مصدر كالغفران سمى به المقروء تسمية المفعول بالمصدر.قال السيوطي قلت والمختار عندي في هذه المسألة ما نص عليه الشافعي رضي الله تعالى عنه. انتهى وأنا متبري من حولي أقول قول الزجاج أرق من وجه إذ الشائع فيه الهمز وبه قرأ السبعة ما عدا ابن كثير وقد وجه إسقاطها بما مر آنفا ولم يوجه إثباتها وكأن قول السيوطي محض تقليد لإمام مذهبه حيث لم يذكر الدليل ولم يوضح السبيل وعندي أنه في الأصل وصف أو مصدر كما قال الزجاج واللحياني لكنه نقل وجعل علما شخصيا كما ذهب إليه الشافعي ومحققو الأصوليين وعليه لا يعرف القرآن لأن التعريف لا يكون إلا للحاق الكلية ولعل من عرفه بالكلام المنزل للإعجاز بسورة منه أراد تصوير مفهوم لفظ القرآن وكذا من قال كالغزالي أنه ما نقل بين دفتي المصحف تواترا أراد تخصيص الأسم بأحد الأقسام الثلاثة مما نقل بين الدفتين ومما لم ينقل كالمنسوخ تلاوته نحو إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وما نقل ولم يتواتر نحو: {ثلاثة أيام متتابعات} ليعلم أن ذلك هو الدليل وعليه الأحكام من نحو منع التلاوة والمس محدثا وإلا فيرد على الأول إن أريد التمييز أن كونه للإعجاز ليس لازما بينا إذ لا يعرفه إلا الأفراد من العلماء فضلا عن أن يكون ذاتيا فكيف يصح لتعريف الحقيقة وتمييزها وهو إنما يكون بالذاتيات أو باللوازم البينة وأيضا أن معرفة السورة منه متوقفة على معرفته فيدور ويرد على الثاني مثل ثاني ما ورد على الأول إذ معرفة المصحف موقوفة على معرفة القرآن إذ ليس هو إلا ما كتب فيه القرآن فأخذه في تعريفه دور أيضا هذا وقد قال ساداتنا الصوفية أفاض الله تعالى علينا من فتوحاتهم القدسية أن القرآن إشارة إلى الذات التي يضمحل بها جميع الصفات فهي المجلي المسمى بالأحدية أنزلها الحق تعالى شأنه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ليكون مشهد الأحدية من الأكوان ومعنى هذا الإنزال أن الحقيقة الأحدية المتعالية في ذراها ظهرت فيه صلى الله عليه وسلم بكمالها وما أدخر عنه شيء بل أفيض عليه الكل كرما إليها ذاتيا ووصف القرآن في بعض الآيات بالكريم لذلك إذ رأى كرما يضاهي هذا الكرم وأنى تقاس هذه النعمة بسائر النعم وأما القرآن الحكيم فهوية الحقائق الإلهية يعرج العبد بالتحقيق بها في الذات شيئا فشيئا على ما اقتضته الحكمة وإلى ذلك أشار الحق تعالى بقوله: {ورتلناه ترتيلا} وهذا الحكم لا ينقطع أبدا إذ لا يزال العبد في ترق والحق في تجل فسبحان من لا تقيده الأكوان وهو كل يوم في شأن وأما القرآن العظيم في قوله تعالى: {ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم} فهو إشارة إلى الجملة الذاتية لا باعتبار النزول ولا باعتبار المكانة بل مطلق الأحدية الذاتية التي هي في مطلق الهوية الجامعة لجميع المراتب والصفات والشئون والاعتبارات ولهذا قرن بالعظيم وأما السبع المثاني فهو ما ظهر عليه في وجوده من التحقق بالصفات السبع وأما قوله تعالى: {الرحمن علم القرآن} فهو إشارة إلى أن العبد إذا تجلى عليه الرحمن وجد لذة رحمانية تكسبه معرفة قرأنية فلا يعلم الحق إلا من طريق أسمائه وصفاته وأما الفرقان عندهم فإشارة إلى حقيقة الأسماء والصفات على اختلاف تنوعاتها.فباعتباراتها تتميز كل صفة وأسم من غيرها فحصل الفرق في نفس الحق من حيث أسماؤه وصفاته فإن أسمه المنعم غير أسمه المنتقم وصفة الرضا غير صفة الغضب وإليه الإشارة بقوله سبقت رحمتي غضبي وهي متفاوتة المراتب في الفضل نظرا إلى أعيانها لا باعتبار أن في شيء منها نقصا أو مفضولية ولهذا حكمت بعضها على بعض كما يشير إليه قوله-صلى الله عليه وسلم- «أعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك» فكانت المعافاة أفضل من العقوبة والرضا أفضل من السخط فأعاذه بالفاضل مما يليه وكذا أعاذه بذاته من ذاته فكما أن الفرق حاصل في الأفعال كذلك في الصفات بل في نفس واحدية الذات التي لا فرق فيها لكن من غريب شؤنها جمعها النقيضين قال أبو سعيد عرفت الله تعالى بجمعه بين الضدين ولكونه-صلى الله عليه وسلم- مظهرا للقرآن والفرقان كان خاتم النبيين وإمام المرسلين لأنه ما ترك شيئا يحتاج إليه إلا وقد جاء به فلا يجد الذي يأتي بعده من الكمال شيئا مما ينبغي أن ينبه عليه قال تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} وقال تعالى: {فصلناه تفصيلا} إلى غير ذلك من الآيات (وقد يقال) القرآن والفرقان إشارتان إلى مقام الجمع والفرق بأقسامها قالوا ولابد للعبد الكامل منهما فإن من لا تفرقة له لا عبودية له ومن لا جمع له لا معرفة له والجمع عندهم شهود الأشياء بالله تعالى والتبري من الحول والقوة إلا بالله وجمع الجمع الاستهلاك بالكلية والفناء عما سوى الله تعالى وهو المرتبة الأحدية والفرق أنواع فرق أول وهو الاحتجاب بالخلق عن الحق وبقاء رسوم الخليقة بحالها وفرق ثان وهو شهود قيام الخلق بالحق ورؤية الوحدة في الكثرة والكثرة في الوحدة من غير احتجاب إحداهما عن الأخرى وفرق الوصف وهو ظهور الذات الأحدية بأوصافها في الحضرة الواحدة وفرق الجمع وهو تكثر الواحد بظهوره في المراتب التي هي ظهور شئون الذات الأحدية وتلك الشئون في الحقيقة اعتبارات محضة لا تحقق لها إلا عند بروز الواحد بصورها وكثيرا ما يطلقون القرآن على العلم اللدني الإجمالي الجامع للحقائق كلها والفرقان على العلم التفصيلي الفارق بين الحق والباطل وكتاب الله تعالى جامع لذلك كله كما لا يخفى على أهله وذكر الشيخ الأكبر قدس سره أن القرآن يتضمن الفرقان والفرقان لا يتضمن القرآن لأن تفاصيل المراتب والأسماء المقتضية لها موجودة في الجمع والجمع لا يوجد في التفاصيل ولهذا ما أختص بالقرآن إلا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فليفهم ونسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا ويزيل بعلمه جهلنا إنه على ما يشاء قدير..الفائدة الرابعة: في تحقيق معنى أن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق: اعلم أن هذه المسألة من أمهات المسائل الدينية والمباحث الكلامية كم زلت فيها أقدام وضلت عن الحق بها أقوام وهي وإن كانت مشروحة في كتب المتقدمين مبسوطة في زبر المتأخرين لكني بحول من عز حوله وفضل من غمرنا فضله أوردها في هذا الكتاب ليتذكر أولو الألباب بأسلوب عجيب وتحقيق غريب لا أظنك شنفت سمعك بمثل لأليه ولا نورت بصرك بشبه بدر لياليه فماء ولا كصدى ومرعى ولا كالسعدان وما كل زهر ينبت الروض طيب ولا كل كحل للنواظر إثمد فأقول إن الإنسان له كلام بمعنى التكلم الذي هو مصدر وكلام بمعنى المتكلم به الذي هو الحاصل بالمصدر ولفظ الكلام موضوع لغة لثاني قليلا كان أو كثيرا حقيقة كان أو حكما وقد يستعمل استعمال المصدر كما ذكره الرضي وكل من المعنيين إما لفظي أو نفسي، فالأول من اللفظي فعل الإنسان باللسان وما يساعده من المخارج والثاني منه كيفية في الصوت المحسوس والأول من النفسي فعل قلب الإنسان ونفسه الذي لم يبرز إلى الجوارح والثاني كيفية في النفس إذ لا صوت محسوسا عادة فيها وإنما هو صوت معنوي مخيل أما الكلام اللفظي بمعنييه فمحل وفاق.وأما النفسي فمعناه الأول تكلم الإنسان بكلمات ذهنية وألفاظ مخيلة يرتبها في الذهن على وجه إذا تلفظ بها بصوت محسوس كانت عين كلماته اللفظية ومعناه الثاني هو هذه الكلمات الذهنية والألفاظ المخيلة المرتبة ترتيبا ذهنيا منطبقا عليه الترتيب الخارجي والدليل على أن للنفس كلاما بالمعنيين الكتاب والسنة فمن الآيات قوله تعالى: {فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا} فإن (قال) بدل من: {أسر} أو استئناف بياني كأنه قيل فماذا قال في نفسه في ذلك الأسرار فقيل: {قال أنتم شر مكانا} وعلى التقديرين فالآية دالة على أن للنفس كلاما بالمعنى المصدري وقولا بالمعنى الحاصل بالمصدر وإثمد من أسر والجملة بعدها وقوله تعالى: {أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى} وفسر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بما أسره ابن آدم في نفسه وقوله تعالى: {واذكر ربك في نفسك} وقوله تعالى: {يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا} أي يقولون في أنفسهم كما هو الأسرع انسياقا إلى الذهن والآيات في ذلك كثيرة ومن الأحاديث ما رواه الطبراني عن أم سلمة «أنها سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقد سأله رجل فقال إني لأحدث نفسي بالشيء لو تكلمت به لأحبطت أجرى فقال لا يلقى ذلك الكلام إلا مؤمن» فسمى صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك الشيء المحدث به كلاما مع أنه كلمات ذهنية والأصل في الإطلاق الحقيقة ولا صارف عنها وقوله تعالى في الحديث القدسي «أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي» الحديث وفيه دليل على أن للعبد كلاما نفسيا بالمعنيين وللرب أيضا كلاما نفسيا كذلك ولكن أين التراب من رب الأرباب.فالمعنى الأول للحق تعالى شأنه صفة أزلية منافية للآفة الباطنية التي هي بمنزلة الخرس في التكلم الإنساني اللفظي ليس من جنس الحروف والألفاظ أصلا وهي واحدة بالذات تتعدد تعلقاتها بحسب تعدد المتكلم به وحاصل الحديث من تعلق تكلمه بذكر اسمي تعلق تكملي بذكر اسمه والتعلق من الأمور النسبية التي لا يضر تجددها وحدوث المتعلق إنما يلزم في التعلق التنجيزي ولا ننكره وأما التعلق المعنوي التقديري ومتعلقه فأزليان ومنه ينكشف وجه صحة نسبة السكوت عن أشياء رحمة غير نسيان كما في الحديث إذ معناه أن تكلمه الأزلي لم يتعلق ببيانها مع تحقق اتصافه أزلا بالتكلم النفسي وعدم هذا التعلق الخاص لا يستدعي انتفاء الكلام الأزلي كما لا يخفى والمعنى الثاني له تعالى شأنه كلمات غيبية وهي ألفاظ حكمية مجردة عن المواد مطلقا نسبية كانت أو خيالية أو روحانية وتلك الكلمات أزلية مترتبة من غير تعاقب في الوضع الغيبي العلمي لا في الزمان إذ لا زمان والتعاقب بين الأشياء من توابع كونها زمانية ويقربه من بعض الوجوه وقوع البصر على سطور الصفحة المشتملة على كلمات مرتبة في الوضع الكتابي دفعة فهي مع كونها مترتبة لا تعاقب في ظهورها فجميع معلومات الله الذي هو نور السموات والأرض مكشوفة له أزلا كما هي مكشوفة له فيما لا يزال ثم تلك الكلمات الغيبية المترتبة ترتبا وضعيا أزليا يقدر بينها التعاقب فيما لا يزال والقرآن كلام الله تعالى المنزل بهذا المعنى فهو كلمات غيبية مجردة عن المواد مترتبة في علمه أزلا غير متعاقبة تحقيقا بل تقديرا عند تلاوة الألسنة الكونية الزمانية ومعنى تنزيلها إظهار صورها في المواد الروحانية والخيالية والحسية من الألفاظ المسموعة والذهنية والمكتوبة ومن هنا قال السنيون القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق وهو مكتوب في المصاحف محفوظ في الصدور مقروء بالألسن مسموع بالأذان غير حال في شيء منها وهو في جميع هذه المراتب قرآن حقيقة شرعية معلوم من الدين بالضرورة فقولهم غير حال إشارة إلى مرتبته النفسية الأزلية فإنه من الشئون الذاتية ولم تفارق الذات ولا تفارقها أبدا ولكن الله تعالى أظهر صورها في الخيال والحس فصارت كلمات مخيلة وملفوظة مسموعة ومكتوبة مرئية فظهر في تلك المظاهر من غير حلول إذ هو فرع الانفصال وليس فليس فالقرآن كلامه تعالى غير مخلوق وإن تنزل في هذه المراتب الحادثة ولم يخرج عن كونه منسوبا إليه (أما) في مرتبة الخيال فلقوله-صلى الله عليه وسلم- أغنى الناس حملة القرآن من جعله الله تعالى في جوفه وأما في مرتبة اللفظ فلقوله تعالى: {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن} وأما في مرتبة الكتابة فلقوله تعالى: {بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ} وقول الإمام أحمد لم يزل الله متكلما كيف شاء وإذا يشاء بلا كيف إشارة إلى مرتبتين فالأول إلى كلامه في مرتبة التجلي والتنزل إلى مظهر له كقوله-صلى الله عليه وسلم- «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة أجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان» الحديث. والثاني إلى مرتبة الكلام النفسي إذ الكيف من توابع مراتب التنزلات والكلام النفسي في مرتبة الذات مجرد عن المادة فأرتفع الكيف بارتفاعها (فالحاصل) لم يزل الله تعالى متكلما وموصوفا بالكلام من حيث تجلي ومن حيث لا فمن حيث تجليه في مظهر لكلامه كيف وإذا شاء لم يتكلم بما اقتضاه مظهر تجليه فيكون متكلما بلا كيف كما كان ولم يزل والأشعري إذا حققت الحال وجدته قائلا بأن الله تعالى كلاما بمعنى التكلم وكلاما بمعنى المتكلم به وأنه بالمعنى الثاني لم يزل متصفا بكونه أمرا ونهيا وخبرا فإنها أقسام المتكلم به وأن الكلام النفسي بالمعنى الثاني حروفه غير عارضة للصوت في الحق والخلق غير أنها في الحق كلمات غيبية مجردة عن المواد أصلا إذ كان الله تعالى ولم يكن شيء غيره وفي الخلق كلمات مخيلة ذهنية فهي في مادة خيالية فكلمات الكلام النفسي في جنابه تعالى كلمات حقيقية لكنها ألفاظ حكمية ولا يشترط اللفظ الحقيقي في كون الكمة حقيقية إذ قد أطلق الفاروق الكلمة على أجزاء مقالته المخيلة في خبر يوم السقيفة والأصل في الإطلاق الحقيقة فالأجزاء كلمات حقيقية لغوية مع أنها ليست ألفاظا كذلك إذ ليست حروفها عارضة لصوت واللفظ الحقيقي ما كانت حروفه عارضة وهو لكونه صورة اللفظ النفسي الحكمي دال عليه وهو دال في النفس على معناه بلا شبهة ولا انفكاك فيصدق على اللفظ النفسي بمعناه أنه مدلول اللفظ الحقيقي ومعناه فتفسير المعنى النفسي المشهور عن الأشعري بمدلول اللفظ وحده كما نقله صاحب المواقف عن الجمهور لا ينافي تفسيره بمجموع اللفظ والمعنى كما فسره هو أيضا وذلك بأن يحمل اللفظ في قوله على النفسي وفي قول الجمهور على الحقيقي ولا شك حينئذ أن مجموع النفسي ومعناه من حيث المجموع يصدق عليه أنه مدلول اللفظ الحقيقي وحده لأن اللفظ الحقيقي لكونه صورة النفسي في مرتبة تنزله دال عليه ويدل على أن المراد المجموع قول إمام الحرمين في الإرشاد ذهب أهل الحق إلى إثبات الكلام القائم بالنفس وهو القول أي المقول الذي يدور في الخلد وهو اللفظ النفسي الدال على معناه بلا انفكاك نعم عبارة صاحب المواقف غير واضحة في المقصود وله مقاة مفردة في ذلك ومحصولها كما قال السيد قدس سره أن لفظ المعنى يطلق تارة على مدلول اللفظ وأخرى على الأمر القائم بالغير فالشيخ لما قال الكلام النفسي هو المعنى النفسي فهم الأصحاب منه أن مراده مدلول اللفظ وحده وهو القديم عنده وأما البعرات فإنما تسمى كلاما مجازا لدلالته على ما هو كلام حقيقي حتى صرحوا بأن الألفاظ خاصة حادثة على مذهبه أيضا لكنها ليست كلامه حقيقة وهذا الذي فهموه من كلام الشيخ له لوازم كثيرة فاسدة كعدم إكفار من أنكر كلامية ما بين دفتي المصحف مع أنه علم من الدين ضرورة كونه كلام الله تعالى حقيقة وكعدم المعارضة والتحدي بكلام الله الحقيقي وكعدم كون المقروء والمحفوظ كلامه حقيقة إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتفطن في الأحكام الدينية فوجب حمل كلام الشيخ على أنه أراد به المعنى الثاني فيكون الكلام النفسي عنده أمرا شاملا للفظ والمعنى جميعا قائما بذات الله تعالى وهو مكتوب في المصاحف مقروء بالألسن محفوظ في الصدور وهو غير الكتابة والقراءة والحفظ الحادثة وما يقال من أن الحروف والألفاظ مترتبة متعاقبة فجوابه أنذلك الترتب إنما هو في التلفظ بسبب عدم مساعدة الآلة فالتلفظ حادث والأدلة الدالة على الحدوث يجب حملها على حدوثه دون حدوث الملفوظ جمعا ين الأدلة وهذا الذي ذكرناه وإن كان مخالفا لما عليه متأخر وأصحابنا إلا أنه بعد التأمل يعرف حقيقته انتهى واعتراضه الدواني بوجوه قال أما أولا:فلان مذهب الشيخ أن كلامه تعالى واحد وليس بأمر ولا نهي ولا خير وإنما يصير أحد هذه الأمور بحسب التعلق وهذه الأوصاف لا تنطبق على الكلام اللفظي وإنما يصح تطبيقه على المعنى المقابل للفظ بضرب من التكلف.وأما ثانيا: فلان كون الحروف والألفاظ قائمة بذاته تعالى من غير ترتب يفضي إلى كون الأصوات مع كونها أعراضا سيالة موجودة بوجود لا تكون فيه سيالة وهو سفسطة من قبيل أن يقال الحركة توجد في بعض الموضوعات من غير ترتب وتعاقب بين أجزائها.
|