الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال عبد الكريم الخطيب: قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ}.أكثر ما يكون الجدل في قضية الإيمان يدور حول البعث حتى إن كثيرا من الذين يعترفون بوجود الإله الخالق، الذي بيده ملكوت السماوات والأرض، يكذبون، أو يشكّون في إمكان البعث ووقوعه. وهذا ناشيء عن فساد في العقيدة، وعن قصور في إدراك بعض ما للّه سبحانه وتعالى من كمال مطلق، في ذاته وصفاته.. وأن قدرته سبحانه مطلقة من كل حد وقيد..وإذا كان للشك في البعث ما يبرره عند الذين ينكرون اللّه، ولا يؤمنون بوجوده، فإنه ليس له وجه يقبل عليه من الذين يقولون إنهم يؤمنون بإله واحد!! وهذا شان اليهود، فإنهم مع إيمانهم باللّه، فإن تصورهم المريض لجلال الألوهية وعظمتها، جعلهم ينظرون إلى اللّه، وكأنه كائن مادىّ محدود، لا يقدر على إعادة الأجسام بعد البلى والدثور.. ثم كان حبهم للحياة، وتعلقهم بها مباعدا بينهم وبين ذكر الموت، وتصوره، وتصوّر ما بعده.. فإنّ ذكر البعث لا يجىء إلا بعد الإيمان بالموت كحقيقة واقعة، ثم استحضاره والإعداد له ولما بعده..فهم كما وصفهم اللّه سبحانه وتعالى في قوله: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} [96: البقرة]..فهم ومشركو العرب على سواء، في تصورهم للبعث، فقد كان مشركو الجاهلية يؤمنون باللّه، ولَكِنه إيمان باهت مختلط بكثير من الضلالات، الأمر الذي جعلهم ينكرون البعث ويقولون: {ما هي إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وما يُهْلَكِنا إِلَّا الدَّهْرُ} [24: الجاثية].وهذه الآية الكريمة تشرح قضية البعث، وتعرضها هذا العرض المحسوس الواضح، الذي تكاد تمسك به اليد، ومن هنا كان العرض عاما، يدعى إليه الناس جميعا، مؤمنهم وكافرهم، عالمهم وجاهلهم:ـ {يا أَيُّهَا النَّاسُ}.. اسمعوا هذا النداء، واشهدوا هذا العرض.. ثم احكموا بما ترون..ـ {إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ}.. فانظروا أولا في هذه الصورة، وتابعوا سيرها، خطوة خطوة، لتروا كيف بدأت، وكيف انتهت، ثم كيف كان البدء.. وكيف كانت النهاية:ـ {فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ}.. هكذا..ـ {مِنْ تُرابٍ } حيث كنتم بعض هذا التراب الذي ترون. لا وجود لكم ولا أثر يدلّ عليكم..{ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ } أي ومن هذا التراب نبتت شجرة إنسانية، هى الإنسان الأول.. ثم كان تناسلكم وتوالدكم، كما تتوالد، وتتناسل الكائنات الحية.. حيث يبدأ التناسل والتوالد بالنطفة، وهي ماء التناسل في الكائن الحىّ..{ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ}.. وهي صورة أولى من صور النطفة، حيث تنعقد النطفة.{ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} هى صورة أولى من صور العلقة، حيث تتحول إلى قطعة من اللّحم، أشبه بلقمة مضغت حتى أصبحت أشبه بقطعة من العجين.. وهذه المضغة قد تكون مهيأة لاستقبال الحياة، فتعلق بالرحم، وتستقر فيه، حتى تستوفى مراحل نموّها، وتصبح جنينا، ثم وليدا يخرج إلى الحياة، وقد تكون غير مهيأة للحياة، فيلفظها الرحم..ـ {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ } أي هذه المراحل التي تحول بها التراب، إلى مادة تأكلونها، ثم تخلّق من هذا المادّة «النطفة» التي هى بذرة الحياة، ثم تحولت النطفة إلى علقة، والعلقة إلى مضغة.. وهذه المضغة تقف على عتبة الحياة، وتطرق بابها.. فإما أن يؤذن لها بالدخول، فتأخذ طريقها حتى تخرج من الباب الآخر كائنا حيّا، وإما أن تردّ، وتعود إلى عالم التراب، الذي جاءت منه- هذه المراحل الأولى هى إعداد للحياة، وتمهيد للأرض التي تنبت فيها..تماما كالبذرة من الحبّ، تمهدّ لها الأرض، ثم تودع في التراب، ثم يساق إليها الماء..وإلى هنا تكون كل وسائل الإنبات مستكملة مستوفاة في ظاهر الأمر..وهذا هو المطلوب من الإنسان أن يعمله، وأن يستكمل أسبابه حتى يجىء المسبّب..!ولَكِن بين الأسباب والمسبب، نظر لناظر، وعبرة لمعتبر!فإذا كان الإنسان يملك أن يهيئ الأرض، ويبذر البذر، ويسوق إليه الماء.. فهل له يد يمكن أن يمدّها إلى تلك الأسباب المهيأة، والتي هى كلها أدوات لم يكن من صنعه شيء منها، بل كل سبب منها مسبب عن أسباب..وكل سبب من هذه الأسباب، مسبب عن أسباب أخرى.. وهكذا- نقول:هل له يد يمكن أن يمدّها إلى تلك الأسباب، فيخرج منها النبات الذي بذر بذرته، وانتظر ثمرته؟وإذا كان الإنسان يملك أن يجد في كيانه النطفة، ثم يهيئ المكان الذي يقذفها فيه، ثم يقذف بالنطفة في هذا المكان المهيأ لها- فهل له مجال هنا في أن يزحزح تلك النطفة التي نزلت بمكانها المهيأ لها، ثم جهدت جهدها، فكانت علقة، ثم كانت العلقة مضغة- نقول: هل له مجال هنا في أن يزحزح تلك النطفة- وقد أصبحت مضغة- إلى أبعد من هذا، وأن ينفخ فيها نفخة الحياة، وأن يمسك بها في الرّحم؟جواب واحد، ينطق به الحال، ويشهد له الواقع، وهو: لا ! إنه لا حول للإنسان ولا طول له، في هذا الأمر أو ذاك، وإنه ليس إلا العجز، والتسليم، ليد قادرة، خالقة، مبدعة.. لا حدود لقدرتها، ولا نهاية لإبداعها.واستمع إلى قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ} [58- 59:الواقعة]. هذا، عن النطفة، وعن آيات القدرة القادرة، وآثارها فيها..{أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نشاء لَجَعَلْناهُ حُطامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [63- 67:الواقعة].. وهذا عن النبات، وعن قدرة القادر، وصنعة الصّانع، في أمر هو أقرب إلى الإنسان. وأيسر- فيما يبدو له- من عملية الخلق المعقدة، في عالم الحيوان.. فهل له في هذا أو ذاك يدان؟وإلى هنا ونحن ما زلنا بعد على شاطىء الحياة، بعيدا عن أعماقها وأغوارها.!فإذا غرق الإنسان وهو ما زال على اليبس، فكيف به إذا خاض الماء، أو غاص في أعماقه؟إنه لأسلم للإنسان إذن أن يقف حيث هو، وأن يظلّ على الشاطئ، يشهد ببصره، أو ببصيرته ما يرى من آيات اللّه، وآثار قدرته ورحمته في تلك المضغة !.وأيّة مضغة؟ إنها المضغة، المخلّقة، التي نفخ فيها الخالق النفخة الأولى للحياة..أمّا المضغة غير المخلقة، فقد وقفت عند الشاطئ.. ترابا مع هذا التراب.فلنبدأ إذن في متابعة هذه النطفة المخلقة، ولنرصد مسيرتها..مرحلة مرحلة..{وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نشاء}..فها هي ذى النطفة الآن في سفينة الحياة.. وها هي ذى السفينة تتحرك رويدا على صدر هذا المحيط العظيم..{ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا}..وها هي ذى السّفينة تضرب في ثبج المحيط، وتختفى رويدا رويدا عن الأنظار.. ثم ها هي ذى تعود بحملها، وقد ثقلت، وكادت تتقطع أنفاسها، وتسقط في اليمّ بما حملت! ولَكِن يد القدرة القادرة تمسك بها، حتى تبلغ الشاطئ، وتلقى بما حملت! وما هذا الحمل الذي ألقت به على شاطىء الحياة؟ ومن أين جاءت به؟إنه تلك النطفة، أو المضغة التي أقلعت بها من الشاطئ.. ثم دارت بها تلك الدورة الطويلة، فتخلّق من هذه المضغة هذا الطفل الذي هو صورة كاملة مصغرة من هذا الإنسان الذي دفع به إلى السفينة نطفة، ثم ها هو ذا يستقبله إنسانا! وما أبعد ما بين النطفة والإنسان، فيما ترى العين، ويشهد العقل.. وما أقرب ما بين النطفة والإنسان في يد الخالق، المبدع، المصوّر!.ثم ما هذا الطفل، أو ذلك الإنسان المصغر؟إنه كائن لا يملك من أمره شيئا..ولَكِن مهلا، فإن يد القدرة ممسكة بيده.. فانظر كيف تجعل من هذا الطفل رجلا، كما جعلت من النطفة طفلا! «ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ».فها هو ذا الطفل في يد القدرة القادرة، تمدّه بأسباب النّماء والقوة، يوما بعد يوم وحالا بعد حال.. وإذا هذه الكومة من اللحم المتحركة في كيانها المحدود، تحبو، ثم تقفز كما تقفز الضفدع، ثم تمشى على أربع كما تمشى الدواب، ثم تقوم منتصبة القامة، تمشى على رجلين.. ثم.. وثم، وثم.. حتى يبلغ أشده وبصير رجلا..وهذا هو الإنسان في أتمّ صورة وأكملها.. لقد كمل جسمه، وعقله.. وبلغ أشدّه.واللام في قوله تعالى: {لِتَبْلُغُوا} هى لام العاقبة والغاية.. أي غاية النضج الإنسانى..وهنا تبدأ لهذا الكائن مسيرة أخرى..{وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا}.وإذ يبلغ الإنسان- مرحلة الشيخوخة- من العمر، يقف وقفة على عتبة الموت، أشبه بتلك الوقفة، التي وقفتها المضغة، على باب الحياة! فكما كانت المضغة هناك مخلّقة أو غير مخلّقة، يكون «الشيخ» هنا مخلّقا من حصاد الموت، أو غير مخلّف..وهذا يعنى..أولا: أن حدود الحياة الإنسانية، تنتهى غالبا عند مرحلة الشيخوخة..حيث يستوفى الإنسان غايته، ويعطى الحياة كلّ ما عنده، ويأخذ منها كلّ ما هو قادر على أخذه منها.وثانيا: أن هذا لا يمنع من أن يسقط على هذا الطريق كثير من الناس، قبل أن يبلغوا هذه المرحلة.. من أجنّة، وأطفال، وصبيان، وغلمان، وشباب.. تماما كما تتساقط بعض ثمار الفاكهة، زهرا، أو حصرما، أو رطبا.كما لا يمنع أيضا من أن يجاوز الإنسان مرحلة الشيخوخة، فيكون من مخلفات الحياة.. تماما كمخلفات الثمر، الذي يجفّ، وهو لا يزال ممسكا بغصن الشجرة..وثالثا: إمساك الحياة ببعض الشيوخ حتى يبلغوا أرذل العمر، هو وجه مقابل لحياة الطفولة في الإنسان.. حيث ينحدر الإنسان شيئا فشيئا، ويتدلّى قليلا قليلا حتى يقع على الأرض، فيصبح كومة من اللحم، يضرب برأسه على الأرض لتفتح له رحمها، وتهيئ له مكانا فيه.. تماما كالجنين، حين تفتّح له رحم أمه.. فخرج منه.. إنها دورة في نصف دائرة.. أشبه بالشمس في شروقها وغروبها..ثم لابد أن تتم هذه الدورة لتكون دائرة كاملة، فهذا هو نظام الكون في أفلاكه جميعا، إنها تدور في دائرة كاملة.. والإنسان ما هو إلا كون من هذه الأكوان.. يشرق، ثمّ يغرب، وبذلك يتم نصف دورته.. أما النصف الآخر فيقطعه وراء هذا العالم- عالم الظاهر- ثم يعود ليطلع من جديد في عالم الظهور!.وفي التعبير القرأنى عن امتداد العمر إلى ما بعد الشيخوخة بقوله تعالى: {أَرْذَلِ الْعُمُرِ} إشارة إلى أن هذه النهاية التي ينتهى إليها الإنسان في مسيرة حياته، هى أرذل مرحلة، وأخسّها، وأسوؤها في حياته.. إذ بها يتحول الإنسان إلى كائن هو مسخ لهذا الإنسان.. حيث تأخذ منه الحياة كل يوم شيئا، وتستردّ شيئا فشيئا ممّا كانت قد أعطته..لقد استقبلته الحياة وليدا، فأرضعته من ثديها، النّماء، والقوة، والإدراك، والعلم، والمعرفة.. وما يزال هذا دأبها به حتى يبلغ غايته، ويستوفى كل ما يمكن أن تعطيه طبيعته.. وهنا تدعه الحياة ينفق مما أخذ منها، وفي كل يوم ينقص رصيده الذي ادخره، من النماء والقوة والإدراك والعلم والمعرفة.. وهكذا يتقلّص ظل هذا الرصيد شيئا فشيئا حتى يصبح ظلالا باهتة.. ثم يختفى، ويذوب، كما يذوب الثلج تحت حرارة الشمس..وشتّان بين بدء الحياة وختامها.. بين وهج الطفولة وتوقدها، وخمود الشيخوخة وبرودتها.. بين إقبال الحياة وإدبارها.. بين الشروق والغروب، بين رحلة الحياة ورحلة الموت!!- وفي قوله تعالى: {لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} هو عرض لصورة الحياة والموت معا، في هذا الإنسان الذي ردّ إلى أرذل العمر، ونكّس في الخلق..هو حىّ ميت، أو ميت حىّ.. إنه يعود من حيث بدأ، فقد جاء إلى الحياة لا يعلم شيئا، كما يقول سبحانه: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا } [78: النحل] وها هو ذا يعود طفلا {لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا}..والتعليل بقوله تعالى: {لِكَيْلا يَعْلَمَ} لا يتوّجه به إلى إنسان بعينه، وإنما هو موجّه إلى الناس عامة، وإلى منكرى البعث خاصة، ليروا في هذا الإنسان، الشاهد الحىّ، الذي ينطق بأن الحياة والموت وجهان متقابلان، وأنه كما يموت الحىّ، يحيا الميّت..وفي نظرة مشرقة صافية يمكن أن تتجلّى في قوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} [95: الأنعام] صورة من صور إخراج الحىّ من الميت، وإخراج الميت من الحىّ، في مسيرة الإنسان على طريق الحياة، من مولده إلى مماته.. أي من طفولته إلى أرذل عمره وتنكيسه في الخلق..فهو في بدء طفولته.. ميت حىّ.. وهو في أرذل عمره حىّ ميت! وما أدقّ وأبرع قول المعرّى:فالحياة- كما يصورها المعرى- جذوة من نار، تبدأ دخانا، وهو أول ما يكون من النار، ثم تنتهى إلى رماد، وهو آخر ما يكون منها..وفي قوله تعالى: {وَتَرَى الأرض هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الماء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}..
|