الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قال تعالى: {بَلْ قُلُوبُهُمْ} هؤلاء الكفرة {فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا} الكتاب المنزل إليك يا سيد الرسل غافلون عما تتلوه عليهم من أحكامه جاهلون معناه عمون عن مغزاه، فهم عن كتاب أعمالهم أغفل وأجهل وأعمه {وَلَهُمْ أَعْمالٌ} أخر خبيثة غير ما ذكرناه {مِنْ دُونِ ذلِكَ} الذي ذكر وأسفل منه وهي فنون كفرهم ومعاصيهم العظيمة كطعنهم بالقرآن والنبوة وإنكارهم البعث والسخرية بنا بجعلهم لنا شريكا وولدا وصاحبة، أخرج ابن المنذر عن ابن عباس أن المراد بالغمرة الكفر والشك وان ذلك إشارة إلى هذا المذكور، والمعنى أن لهم أعمالا دون الكفر.وأخرج ابن جرير عن قتادة إن ذلك كهذا إشارة إلى ما وصف به المؤمنين من الأعمال الصالحة أي لهم أعمال متخطية لما وصف به المؤمنون، أي أهذا وما وصفوا به مما وقع في حيّز الصلاة فما بعدها، وهذا غاية في الذم {هُمْ لَها عامِلُونَ} 63 معتادون عليها لا يتركونها لسابق شقائهم، وهم لا يزالون على أحوالهم القبيحة لا يتذكرون عاقبة أمرهم {حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ} المترفون والرؤساء والأغنياء والقادة {يَجْأَرُونَ} 64 يستغيثون ويضجّون جزعا، فإذا ذاك يحسون بما يراد بهم ويقال لهم {لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ} ولا تجزعوا وتضجروا فإنه لا ينفعكم، لأنكم لم تعملوا خيرا لتجدوا من ينصركم لأجله {إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ} 65 لعدم تقديمكم لنا عملا يوجب نصرتكم، ولم تطلبوا النّصر منا في الدنيا لنغيثكم ونرحمكم في هذه الدار، وإذ لم تفعلوا فاطلبوها من أوثانكم الذين كنتم تزعمون أنهم يشفعون لكم {قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ} من قبل رسلي أنه لا إله غيري فاعبدوني واسمعوا قول رسلي، فأبيتم وأرادت رسلنا تقديمكم إلينا بالأعمال الصالحة {فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ} 66 ترجعون القهقرى لا تلتفتون إليهم ولا إلى ما جاءوكم به، والنكوص المشي إلا الوراء وهي أقبح مشية، إذ لا يرى ما ورائه، الذي هو أمامه، والمعنى أنكم كنتم تتأخرون عن قبول الإيمان حال كونكم {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} متعظمين بالبيت الحرام، لأنكم سكانه وأهله، وذلك أنهم كانوا يقولون نحن سكان بيت اللّه وجيرانه وأهل حرمه، لا يظهر علينا أحد، ولا نخاف من أحد، ولو كانوا لم يستكبروا وأطاعوا وأذعنوا لمن أرسلنا إليهم لما خافوا، ولكنهم استكبروا وكفروا فلم ينفعهم البيت، لأنه قد يشفع لمن آمن بربه وصدق رسله.هذا وعود الضمير إلى غير مذكور جائز إذا كان مشهورا متعارفا راجع {إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} وقوله تعالى: {حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ} الآية 32 من سورة ص فإن الضمير يعود في الأول للقرآن، وفي الثاني للشمس لمعلوميتهما مع عدم سبق ذكرهما استغناء بالمشهور المتعارف دون حاجة للتبينة إليهما.وقيل إن الضمير في هذه الآية يعود إلى القرآن المشتمل على الآيات الوارد ذكرها في قوله {قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ} أول الآية 66 المارة، والأول أظهر، وهو مروي عن ابن عباس.وان افتخارهم بالبيت وترنمهم بأنهم خدامه وقوامه، وأنهم الآمنون به من الناس، والناس يخافون من غيرهم أشهر من أن يذكر.وقال بعض المفسرين بعود الضمير لحضرة الرسول وليس بشيء، لأنهم لا يعترفون به، فكيف يعتزون به ويستكبرون، ولو كان مرادا هو أو القرآن لقالوا عنه لا به واللّه أعلم.ولأنهم نافرون من اللّه ورسوله وكل منهم يمضي نهاره وليله {سامِرًا} لأنهم كانوا طيلة أوقاتهم يسمرون بالطعن في آيات اللّه ورسوله ويتحازرون عليها أهي سحر أم شعر أم كهانة إلى غير ذلك.والسمر يطلق على حديث الليل فقط، ولفظ سامر جاء حالا ثانية بعد مستكبرين {تَهْجُرُونَ} 67 الأيمان بها وبمن جاءكم بها من هجر إذا هذر وتكلم بما لا يعلم، أو ترك وأعرض، أو من أهجر إذا أفحش بالقول، وخير الثلاث الوسط، لأنه أكثر مناسبة بالمعنى.
.مطلب توبيخ الكفرة على الطعن بحضرة الرسول مع علمهم بكماله وشرفه وخطبة أبي طالب: قال تعالى: {أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} الذي ذكر في تلك الآيات ويستدلوا بها على صدق الذي جاءهم بها؟ والاستفهام لإنكار الواقع واستقباحه، أي فعلوا ما فعلوا من النكوص والاستكبار والهجر لأنهم لم يتدبروا معاني تلك الآيات المنزلة لخيرهم، ولم يعلموا ما فيها من الإعجاز حتى يؤمنوا بأنها الحق من ربهم.{أَمْ} منقطعة بمعنى بل للإضراب والانتقال من التوبيخ بما ذكر إلى توبيخ آخر، والاستفهام هنا لإنكار الوقوع، أي بل {جاءَهُمْ} من الآيات {ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} 68 ولذلك استبعدوها وأنكروها فوقعوا فيما وقعوا فيه من الكفر والضلال، مع أن إرسال الرسل وإنزال الآيات على البشر سنة قديمة له تعالى لا تكاد تنكر، وان ما جاءهم به محمد من جنس ما جاء به الأنبياء قبله لأممهم.ثم انتقل إلى توبيخ ثالث والاستفهام فيه لإنكار الوقوع أيضا فقال: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ} وهو معروف عندهم بالأمانة والصدق وحسن الأخلاق ووفور العقل وشرف النسب وعزة الحسب والوفاء بالوعد والعهد والصدق وغيرها من الآداب الحسنة {فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} 69 أي أيقدرون أن ينكروه مع وضوحه عندهم ومعلوميته بالأخلاق الفاضلة.وفي هذه الآية دليل قاطع على أنهم يعرفون محمد صلى الله عليه وسلم بأنه على غاية من الكمال ونهاية من الوقار، ولو لا ذلك لأنكروا على أبي طالب خطبته التي قرأها يوم عقد نكاحه على خديجة رضي اللّه عنها بحضور رؤساء قريش، إذ قال فيها: الحمد للّه الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل وضئضىء معد، وعنصر مضر، وجعلنا خدمة بيته، وسواس حرمه، وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا، وجعلنا الحكام على الناس، ثم ان ابن أخي محمد بن عبد اللّه لا يوازن يرجل إلا رجح به، فإن كان في المال قلّة فإن المال ظل زائل وأمر حائل، ومحمد من قد عرفتم قرابته، وقال وهو واللّه بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل إلخ.ولم ينكر أحد منهم شيئا من ذلك إلا بعد ادعائه الرسالة، حسدا وبغيا وخوفا على الرياسة التي لهم شيء منها.قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ} أي ليس الأمر كما يقولون إن ما جاءهم به عبارة عن سحر وكهانة وغيرهما، وإنما {جاءَهُمْ بِالْحَقِّ} الذي لا محيد عنه وهو التوحيد للإله ودين الإسلام ودين إبراهيم عليه السلام الذي تضمنته تلك الآيات الدالة على صدقه وأمانته، وقد اشتهر عندهم بالأمين {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ} 70 لأن جبلّتهم مطبوعة على الكذب، وطبيعتهم مجبولة على الزيغ، وإنما قال أكثرهم لأن منهم من يعرف أحقية ذلك كله، وإنما لم يعترف به حذرا من تعيير قومه لا كراهة به، وعليه فيكون أقلهم تاركا للإيمان أنفة واستكبارا عنه وخوفا من توبيخ قومه، وأن يقولوا له صبوت أي تركت دين آبائك، وانك احتجت لطعام محمد وغير ذلك مما مر في الآية 14 من سورة فصلت المارة، كراهة لحضرته المقدسة تبعا لأهوائهم {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ} فيما يعتقدون من الشرك وغيره {لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالأرض} وهذه الآية قريبة في المعنى لقوله تعالى: {لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا} الآية 22 من سورة الأنبياء المارة {وَمَنْ فِيهِنَّ} لفسد أيضا، وقد خص العقلاء لأن غيرهم تبع لهم، وهذا أيضا انتقال التوبيخ خامس.قال تعالى: {بَلْ} لم نتّبع أهواءهم ولكن {أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ} قرآنهم على يد رسولهم، وقد أضافه إليهم لأنه منزل لهم {فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ} المختص بهم {مُعْرِضُونَ} 71 وهو فخرهم وشرفهم، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} الآية 44 من الزخرف المارة، وفيها معنى الاستفهام، أي المعرضون عن ذكرهم الذي آتيناه إباهم وهو مجدهم وعزهم، كيف يكون ذلك منهم بل يجب أن يتمسكوا به ويعضوا عليه بالنواجذ، لا أن يعرضوا عنه، وهذا انتقال سابع لتوبيخ آخر.قال تعالى: {أَمْ} متعلق بقوله {أم يقولون به جنّة} أي يزعمون أنك يا محمد {تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا} أجرا وجعلا على أداء الرسالة بمقابل نصحك لهم وإرشادهم إلى الحق ولذلك لا يؤمنون بك، كلا لا نطلب منهم شيئا على أداء وحي ربك {فَخَراجُ رَبِّكَ} يا محمد أي رزقه {خَيْرٌ} لك من الدنيا، وثوابه في الآخرة أخير مما يتصورونه لسعته ودوامه وعدم وجود المنّة فيه.والخراج بإزاء الدخل يقال لكل ما تخرجه إلى غير ذلك، وهو في الأصل ضريبة الأراضي المعطاة إلى الدول، ففيه إشعار بالكثرة واللزوم بالنسبة إليه تعالى، ولذلك عبّر اللّه به عنه، وقرئ خرجا وهما في المعنى سواء {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} 72 لك في الدنيا والآخرة {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ} يا سيد الرسل بلا مقابل {إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} 73 بوصلهم إلى الجنة دائمة النعيم {وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} وينكرون البعث والحساب والعقاب والثواب، كقومك وأمثالهم لا يميلون إلى دعوتك السامية المستقيمة لأنهم {عَنِ الصِّراطِ} المؤدي الدين الحق المنتهي لرضاء اللّه القائد لجنانه {لَناكِبُونَ} 74 عادلون عنه مائلون إلى الاعوجاج {وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا} لتمادوا لأن اللجاج التناهي في الخصومة والتمادي في العناد أي لبقوا {فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ} 75 لم ينزعوا عنه ولم يتركوه، والعمه عمى القلب والتردد في الأمر والحيرة في الهوى، كمن يضل عن الطريق لا يدري أين يتوجه، فلا رأي له ولا دراية..مطلب إصابة قريش بالقحط ثلاث مرات، واعترافهم بقدرة اللّه وإصرارهم على عبادة غيره، ومتعلقات برهان التمانع: قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ} قريشا قوم محمد {بِالْعَذابِ} القحط ليرجعوا إلى اللّه وهو أشد عذاب الدنيا {فَمَا اسْتَكانُوا} ما خضعوا ولا لجأوا {لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ} 76 إليه ليكشفه عنهم بل أصروا على كفرهم.وسبب نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في مكة في الحرم الشريف فألقى عليه بعض المشركين سلى جزور، فقال اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف. فأصابهم القحط، فقال أبو سفيان تزعم يا محمد أنك بعثت رحمة للعالمين، فقال بلى، فقال أنشدك اللّه والرحم، فإن قومك أكلت القد والعظام وأنهكهم الضر، فادع اللّه أن يكشف عنهم، فدعا فأنزل اللّه هذه الآية استشهادا على عدم خضوعهم وعلى دوامهم على حالتهم لقوله تعالى: {وَما يَتَضَرَّعُونَ} وهذا القحط غير القحط الذي وقع بمكة بعد الهجرة كما ذكره السيد برهان الدين الحلبي في سيرته، وهذا غير الجوع الذي أصابهم بسبب منع ثمامة بن أثال الحنفي الميرة عنهم حينما جاءت به سرية محمد بن مسلمة التي بعثها صلى الله عليه وسلم إلى بني بكر بن كلاب، فأسلم بعد أن امتنع ثلاثة أيام، ثم خرج معتمرا فلما قدم بطن مكة لبّى، وهو أول من دخلها ملبيا.ومن هنا قال الحنفي:فأخذته قريش وأتبوه على تغيير دينه، فقال لهم اتبعت خير دين، دين محمد الأمين صلى الله عليه وسلم.ثم قال واللّه لا يصلكم حبة من اليمامة حتى يأذن رسول اللّه، ثم منع الميرة عن أهل مكة.فكتبت قريش إلى رسول اللّه وهو في المدينة تستغيث به مما أصابها من الجوع، فأذن لثمامة أن يمتاروا، وهذه الحادثة قبل الفتح، وعلى هذا يكون القحط أصاب قريشا ثلاث مرات واللّه أعلم.قال تعالى: {حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بابًا ذا عَذابٍ شَدِيدٍ} فيما يستقبل من الزمن وهو إنزال السيف فيهم وأمر الرسول بقتالهم وقسرهم وإجلائهم {إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} 77 آيسون خائبون متحيّرون.وفي هذه الآية دلالة على قرب الهجرة وفتح الباب الذي سيكون بعدها، إذ أشار اللّه عنها ثلاث مرات، وسيأتي الإذن بها في ذكرها رابعا كما ستعلمه بعد.قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ} لتسمعوا وتبصروا وتعقلوا ولكنكم {قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ} 78 اللّه على نعمه ولم تصرفوها لما خلقت لها ولم تقدروها حق قدرها ولم تؤدوا شكرها لخالقها، وإذ نفى عنهم قليل الشكر، فالكثير منتف من باب أولى.
|