الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.فصل في ذكر قراءات السورة كاملة: .قال ابن جني: سورة المؤمنون:بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.قرأ: {عَظْمًا}، واحدًا {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ} جماعة- السلمي وقتادة والأعرج والأعمش. واختلف عنهم.وقرأ: {عِظَامًا} جماعةٌ {فَكَسَوْنَا الْعِظْمَ} واحدا- مجاهد.قال أبو الفتح: أما من وحد فإنه ذهب إلى لفظ إفراد الإنسان والنطفة والعلقة، ومن جمع فإنه أراد أن هذا أمر عام في جميع الناس. وقد شاع عنهم وقوع المفرد في موضع الجماعة.نحو قول الشاعر:وقول طفيل: وهو كثير وقد ذكرناه. إلا أن من قدم الإفراد ثم عقب بالجمع أشبه لفظا؛ لأنه جاور بالواحد لفظ الواحد الذي هو إنسان و{سلالة} و{نطفة} و{علقة} {ومضغة}. ثم عقب بالجماعة؛ لأنها هي الغرض. ومن قدم الجماعة بادر إليها إذ كانت هي المقصود. ثم عاد فعامل اللفظ المفرد بمثله. والأول أحرى على قوانينهم. ألا تراك تقول: من قام وقعدوا إخوتك فيحسن لانصرافه عن اللفظ إلى المعنى، وإذا قلت: من قاموا وقعد إخوتك، ضعف لأنك قد انتحيت بالجمع على المعنى وانصرفت عن اللفظ؟ فمعاودة اللفظ بعد الانصراف عنه تراجع وانتكاث، فاعرفه وابن عليه فإنه كثير جدا.ومن ذلك قراءة الزهري والحسن والأعرج: {تُنْبَتُ}، برفع التاء، ونصب الباء.وفي قراءة عبد الله: {تَخْرُجُ بِالدُّهْنِ}.قال أبو الفتح: الباء هنا في معنى الحال، أي: تنبت وفيها دهنها، فهو كقولك: خرج بثيابه. أي وثيابه عليه، وسار الأمير في غلمانه، أي وغلمانه معه، وكأنه قال: خرج لابسا ثيابه، وسار مستصحبا غلمانه، وكذلك قول الهذلي: أي: يعثرن كابيات في حد الظبات، أو مجروحات في حد الظبات. ومثله ما أنشده الأصمعي من قوله: أي: قطع الحبل ومرودُه فيه، أي: متصلا به مِرْوَدُه، فكذلك قوله: {تُنْبَتُ بِالدُّهْنِ}،ومستنة: وصف من استن: إذا انطلق، ويريد بها طعنة فار منها الدم وسال. والخروف: والد الفرس إذا بلغ ستة أشهر أو سبعة. والمرود: الوتد. والضرح: الدفع. والشموس من الخيل: الذي يمنع ظهره، ولا يكاد يستقر. ويريد أن هذه الطعنة قد فار منها الدم وسال على المطعون كما يمر المهر الشموس أفلت من الوتد. وإذا وضعت الأصابع على الدم الفائر منها دفعها كما يدفع الشموس برجله، حتى لقد يئس العود من صلاحها. اللسان: خرف، نبت.أي: تنْبُتُ ودهنها فيها، وكذلك من قرأ: {تَنْبُتُ}، أي: تنبت على هذه الحال، وكذلك أيضا من قرأ: {تَنْبِتُ بِالدُّهْنِ} قد حذف مفعولها، أي: تنبت ما تنبته ودهنها فيها وذهبوا في قول زهير: إلى أنه في معنى نَبَتَ وأنها لغة: فَعَلْت وأفْعَلَت. وقد يجوز أن يكون على هذا أي: محذوف المفعول، أي: حتى إذا أنبتَ البقلُ ثمرَهُ. ونحن نعلم أيضا أن الدهن لا ينبِت الشجرة، وإنما ينبتها الماء. ويؤكد ذلك أيضا قراءة عبد الله: {تَخْرُجُ بالدُّهنِ}، أي: تخرج من الأرض ودهنها فيها.فأما من ذهب إلى زيادة الباء، أي: تنبِت الدهن، فمضعوف المذهب، وزائد حرفا لا حاجة به إلى اعتقاد زيادته مع ما ذكرناه من صحة القول عليه، وكذلك قول عنترة: ليس عندنا على زيادة الباء، وإنما هو على شربت في هذا الموضع ماء، فحذف المفعول. وما أكثر وأعذب وأعرب حذف المفعول وأدله على قوة الناطق به!ومن ذلك قراءة أبي جعفر يزيد: {لَعِبْرَةً تَسْقِيكُمْ}.قال أبو الفتح: ليس قوله: {تَسقيكم} صفة، لعبرة كقولك: لعبرة ساقية. ألا ترى أنه ليست العبرة الساقية، إنما هناك حض وبعث على الاعتبار بسقياها لنا أو بسقيا الله سبحانه إيانا منها؟ فالوقف إذًا على قوله: {لعبرة}، ثم استأنف تعالى تفسير العبرة، فقال: {تسقيكم} هي، أو {نُسْقِيكُمْ} نحن {مِمَّا فِي بُطُونِهَا}. وقوله: {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ} أحد ما يدل على قوة شبه الظرف بالفعل. ألا تراه معطوفا على قوله: {نُسْقِيكُمْ}؟ والعطف نظير التثنية، والتثنية تقتضي تساوي حال الاسمين وتشابههما. ومثله في ذلك قول الآخر أخبرنا به أبو بكر محمد بن الحسن عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب: فعطف طيره على علي وهو ظرف.ومنه قوله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}، فوجود معنى الشرط في الظرف أقوى دليل على قوة شبهه بالفعل؛ لأن الشرط لا يصح إلا به. وسوغ ذلك أيضا أن قوله: {تَسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا} في معنى قوله: لكم في بطونها سقيا، ولكم فيها منافع.ومن ذلك قراءة أبي جعفر والثقفي: {هَيْهَاتِ هَيْهَاتِ} 7، بكسر التاء غير منونة.وقرأ: {هَيْهَاتٍ هَيْهَاتٍِ} عيسى بن عمر، وقرأ: {هَيْهَاتٌ هَيْهَاتٌ} رفع منون- أبو حيوة، وقرأ: {هَيْهَاتْ هَيْهَاتْ} مرسلة التاء عيسى الهمداني، ورويت عن أبي عمرو.قال أبو الفتح: أما الفتح- وهي قراءة العامة- فعلى أنه واحد، وهو اسم سمي به الفعل في الخبر، وهو اسم بَعُدَ، كما أن شتان اسم افترق وأوَّتَاه اسم أتألم، وأُفّ اسم أتضجر وقد ذكرنا في أفّ طرفا صالحا من هذا الحديث.ومن كسر فقال: {هيهاتٍ} منونا أو غير منون فهو جمع هيهات وأصله هيْهيات: إلا أنه حذف الألف، لأنها في آخر اسم غير متمكن، كما حذفت ياء الذي في التثنية إذا قلت: اللذان وألف ذا إذا قلت: ذان.ومن نون ذهب إلى التنكير، أي: بُعْدًا بُعْدًا.ومن لم ينون ذهب إلى التعريف، أراد: البُعْد البُعْد.ومن فتح وقف بالهاء؛ لأنها كهاء أرْطَاة وسِعْلَاة.ومن كسر كتبها بالتاء؛ لأنها جماعة، والكسرة في الجماعة بمنزلة الفتحة في الواحد، كما أن سقوط النون من ضربا بمنزلة الفتحة في ضرب طردا على سقوط النون في لن يضربا بمنزلة الفتحة في أن يضرب. فلفظ البناء في هذا كلفظ الإعراب.ومن قال: {هيهاةٌ هيهاةٌ} فإنه يكتبها بالهاء؛ لأن أكثر القراءة {هَيْهَاةَ} بالفتح، والفتح يدل على الإفراد، والإفراد بالهاء كهاء أرطاة وعَلْقَاة، غير أن من رفع فقال: {هيهاةٌ} فإنه يحتمل أمرين:أحدهما أن يكون أخلصها اسما معربا فيه معنى البعد، ولم يجعله اسما للفعل فيبنيه كما بنى الناس غيره، وقوله: {لِمَا تُوعَدُون} خبر عنه، كأنه قال: البعد لوعدكم، كما يقول القائل: الخلف لموعدك، والضلال لإرشادك، والخيبة لانتجاعك.والآخر أن تكون مبنية على الضم، كما بنيت نحن عليه، وكما بنيت حَوْبُ عليه في الزجر، ثم اعتقد في التنكير فلحقه التنوين على ما مضى. ونحو من ذلك ما حُكي عن بعضهم من ضمة نون التثنية في الزيدانُ والعمرانُ.وأما {هيهاتْ هيهاتْ}، ساكنة بالتاء فينبغي أن يكون جماعة، وتكتب بالتاء؛ وذلك أنها لو كانت هاء كهاء علقاة وسماناة للزم في الوقف عليها أن يلفظ بالهاء كما يوقف مع الفتح فيقال: هَيْهَاه هَيْهَاه. فبقاء التاء في الوقف في السكون دليل على أنها تاء، وإذا كانت تاء فهي للجماعة، وهو أمثل من أن يعتقد فيها أنها أجريت في الوقف مجراها في الوصل من كونها تاء كقولنا: عليه السلام والرحمتْ، وقوله: لقلة هذا وكثرة الأول، وكذلك يقف الكسائي عليه، وهو عندي حسن لما ذكرته.وعذر من وقف بالتاء كونها في أكثر الأمر مصاحبة للأخرى من بعدها، ولأنها أيضا تشبه الفعل، والفعل أبدا متطاول على الفاعل، وهذا طريق الوصل، ولأن الضمير فيها لم يؤكد قط، فأشبهت الفعل الذي لا ضمير فيه، فكان ذلك أدعى في اللفظ إلى إدراجها بالتوقع له:والذي حسن الوقوف عليها حتى نطق بالهاء فيها ما أذكره لك، وهو أن هيهاهْ جارية مجرى الفعل في اقتضائها الفاعل، فإذا قال: هيهاتَ، فكأنه قال: بعُد بعثكُم، بعُد إنشاؤكم، بعُد إخراجكم. فإذا وقف عليه أعلم أن فيه فاعلا مضمرا وأن الكلمة قد استقلت بالضمير الذي فيها، وإذا وصلها بالأخرى أوهم حاجة الأولى إلى الآخرة فآذن بالوقوف عليها باستقلالها وغنائها عن الأخرى من بعدها، فافهم ذلك. ولا يجوز أن يكون قوله4: {لِمَا تُوعَدُونَ} هو الفاعل؛ لأن حرف الجر لا يكون فاعلا، ولا يحسن اعتقاد زيادة اللام هنا حتى كأنه قال: بَعُدَ ما توعدون؛ لأنه لم تؤلف زيادة اللام في نحو هذا، وإنما زيدت في الموضع الذي الغرض بزيادتها فيه تمكين معنى الإضافة، كقوله: وكقوله: وإذا لم يكن لها بد من الفاعل ولم يكن الظاهر بعدها فاعلا لها ففيها ضمير فاعل لا محالة، وهو ما قدمنا ذكره. ومما نون وهو مبني على الضم قوله: ومنه قولهم في الضجر: أفٌّ فيمن ضم ونون، ويؤنسك باستعمالهم من هذا اللفظ اسما معربا قول رؤبة: فكأنه قال: بَعُدَ بُعْدُهُ، وهو كقولهم: جُنَّ جُنُونُه، وضَلَّ ضَلالُه، وقولهم: موتٌ مائتٌ، وشعرٌ شاعرٌ على طريقة المبالغة. وهيهاؤه إذًا فِعْلالُه، كزِلْزَاله وقِلْقَالِه، والهمزةُ فيه منقلبةٌ عن ياء، لأنه من باب6 حَاحَيْتُ وعاعَيْتُ. وقريب من لفظه ومعناه ما أنشدَناه أبو على من قولِ بعضهم: فَالْهَيْهُ: المرقّع من الناس المرذول الذي يقال له في إبعاده: هَيْهْ. فسمي بالصوت الذي يقال، كما قال الآخر: يعني البَغْل؛ لأنه يقال له في الزجر: عَدَسْ. قال: فَالْهَيْهُ- كما ترى- ثلاثي، وهيهات- على ما مضى- رباعي، فاللفظان أخوان، والمعنيان متقاربان؛ لأن هيهاة اسم بَعُدَ وهَيْهْ زجرٌ وإبعادٌ ونظير هَيْهْ وهَيْهَاهْ قولهم: سَلِسَ وسَلْسَلَ، وقَلِقَ وقَلْقَلَ، وجَرِجَ وجَرْجَرَ. وسألني أبو على يوما فقال: أي شيء مثل غَوْغاء وغَوْغَاء؟ فقلت له: قولهم للمنخوب: هُوهٌ وهَوْهَاءةٌ. وينبغي أن يضاف إلى ذلك ما ذكرناه الآن من قولهم: هَيْه وهَيْهَاتْ.ومن ذلك قراءة الحر النحوي: {نُسْرِعُ لَهُمْ}، وقرأ عبد الرحمن بن أبي بكرة: {يُسَارِعُ لهم}، وروي عنه أيضا: {يُسَارَعُ لهم} بفتح الراء، والذي قبله بكسر الراء وقراءة الناس: {نُسَارِعُ} بالنون والألف.قال أبو الفتح: هنا على قراءة الكافة إلا عبد الرحمن ضمير محذوف، أي: أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين نُسارِع لهم به في الخيرات، أو نُسْرع لهم به، أو يُسارَعُ لهم به في الخيرات؟ فحذفت به للعلم بها، كما حذف الضمير في قولهم: السمن مَنَوَان بدرهم، أي: منوان منه بدرهم، فكأن به المتقدمة في الصلة من قوله: {نُمِدُّهُمْ بِهِ} صارت عوضا من اللفظ بها ثانية. ومعناه أنا لا نقدمه لهم إرادة للخير، بل هو إملاء واستدراج لهم كقوله جل وعز: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ}، إلى آخر ذلك وغيره من الآي في معناه.
|