الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
المرتبة الثالثة: قوله تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً} أي حولنا النطفة عن صفاتها إلى صفات العلقة وهي الدم الجامد.المرتبة الرابعة: قوله تعالى: {فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً} أي جعلنا ذلك الدم الجامد مضغة أي قطعة لحم كأنها مقدار ما يمضغ كالغرفة وهي مقدار ما يغترف، وسمى التحويل خلقًا لأنه سبحانه يفني بعض أعراضها ويخلق أعراضًا غيرها فسمى خلق الأعراض خلقًا لها وكأنه سبحانه وتعالى يخلق فيها أجزاء زائدة.المرتبة الخامسة: قوله: {فَخَلَقْنَا المضغة عظاما} أي صيرناها كذلك وقرأ ابن عامر عظمًا والمراد منه الجمع كقوله: {والملك صَفًّا صَفًّا}.المرتبة السادسة: قوله تعالى: {فَكَسَوْنَا العظام لَحْمًا} وذلك لأن اللحم يستر العظم فجعله كالكسوة لها.المرتبة السابعة: قوله تعالى: {ثم أنشأناه خلقًا آخر} أي خلقًا مباينًا للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعله حيوانًا وكان جمادًا، وناطقًا وكان أبكم، وسميعًا وكان أصم، وبصيرًا وكان أكمه، وأودع باطنه وظاهره بل كل عضو من أعضائه وكل جزء من أجزائه عجائب فطرة وغرائب حكمة لا يحيط بها وصف الواصفين، ولا شرح الشارحين، وروى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: هو تصريف الله إياه بعد الولادة في أطواره في زمن الطفولية وما بعدها إلى استواء الشباب، وخلق الفهم والعقل وما بعده إلى أن يموت، ودليل هذا القول أنه عقبه بقوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيّتُونَ} وهذا المعنى مروي أيضًا عن ابن عباس وابن عمر، وإنما قال: {أنشأناه} لأنه جعل إنشاء الروح فيه، وإتمام خلقه إنشاء له قالوا في الآية دلالة على بطلان قول النظام في أن الإنسان هو الروح لا البدن فإنه سبحانه بين أن الإنسان هو المركب من هذه الصفات، وفيها دلالة أيضًا على بطلان قول الفلاسفة الذين يقولون إن الإنسان شيء لا ينقسم، وإنه ليس بجسم.أما قوله: {فَتَبَارَكَ الله} أي فتعالى الله فإن البركة يرجع معناها إلى الامتداد والزيادة، وكل ما زاد على الشيء فقد علاه، ويجوز أن يكون المعنى، والبركات والخيرات كلها من الله تعالى، وقيل أصله من البروك وهو الثبات، فكأنه قال والبقاء والدوام.والبركات كلها منه فهو المستحق للتعظيم والثناء، وقوله: {أَحْسَنُ الخالقين} أي أحسن المقدرين تقديرًا فترك ذكر المميز لدلالة الخالقين عليه وهاهنا مسائل:المسألة الأولى:قالت المعتزلة لولا أن الله تعالى قد يكون خالقًا لفعله إذا قدره لما جاز القول بأنه أحسن الخالقين، كما لو لم يكن في عباده من يحكم ويرحم لم يجز أن يقال فيه أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، والخلق في اللغة هو كل فعل وجد من فاعله مقدرًا لا على سهو وغفلة، والعباد قد يفعلون ذلك على هذا الوجه، قال الكعبي هذه الآية، وإن دلت على أن العبد خالق إلا أن اسم الخالق لا يطلق على العبد إلا مع القيد كما أنه يجوز أن يقال رب الدار، ولا يجوز أن يقال رب بلا إضافة، ولا يقول العبد لسيده هو ربي، ولا يقال إنما قال الله تعالى ذلك لأنه سبحانه وصف عيسى عليه السلام بأنه يخلق من الطين كهيئة الطير لأنا نجيب عنه من وجهين: أحدهما: إن ظاهر الآية يقتضي أنه سبحانه {أَحْسَنُ الخالقين} الذين هم جمع فحمله على عيسى خاصة لا يصح الثاني: أنه إذا صح وصف عيسى بأنه يخلق صح وصف غيره من المصورين أيضًا بأنه يخلق؟ وأجاب أصحابنا بأن هذه الآية معارضة بقول الله تعالى: {الله خالق كُلّ شَيْء} [الزمر: 62] فوجب حمل هذه الآية على أنه {أَحْسَنُ الخالقين} في اعتقادكم وظنكم، كقوله تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] أي هو أهون عليه في اعتقادكم وظنكم والجواب الثاني: هو أن الخالق هو المقدر لأن الخلق هو التقدير والآية تدل على أنه سبحانه أحسن المقدرين، والتقدير يرجع معناه إلى الظن والحسبان، وذلك في حق الله سبحانه محال، فتكون الآية من المتشابهات والجواب الثالث: أن الآية تقتضي كون العبد خالقًا بمعنى كونه مقدرًا، لكن لم قلت بأنه خالق بمعنى كونه موجدًا.المسألة الثانية:قالت المعتزلة الآية تدل على أن كل ما خلقه حسن وحكمة وصواب وإلا لما جاز وصفه بأنه أحسن الخالقين، وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون خالقًا للكفر والمعصية فوجب أن يكون العبد هو الموجد لهما؟ والجواب: من الناس من حمل الحسن على الإحكام والاتقان في التركيب والتأليف، ثم لو حملناه على ما قالوه فعندنا أنه يحسن من الله تعالى كل الأشياء لأنه ليس فوقه أمر ونهي حتى يكون ذلك مانعًا له عن فعل شيء.المسألة الثالثة:روى الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب هذه الآيات لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انتهى إلى قوله تعالى: {خَلْقًا آَخَرَ} عجب من ذلك فقال: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اكتب فهكذا نزلت» فشك عبد الله وقال إن كان محمد صادقًا فيما يقول فإنه يوحى إلى كما يوحى إليه، وإن كان كاذبًا فلا خير في دينه فهرب إلى مكة فقيل إنه مات على الكفر، وقيل إنه أسلم يوم الفتح. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما نزلت هذه الآية قال عمر بن الخطاب: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هكذا نزلت يا عمر».وكان عمر يقول: وافقني ربي في أربع، في الصلاة خلف المقام، وفي ضرب الحجاب على النسوة، وقولي لهن: لتنتهن أو ليبدلنه الله خيرًا منكن، فنزل قوله تعالى: {عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أزواجا خَيْرًا مّنكُنَّ} [التحريم: 5] والرابع قلت: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} فقال هكذا نزلت.قال العارفون هذه الواقعة كانت سبب السعادة لعمر، وسبب الشقاوة لعبد الله كما قال تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26] فإن قيل فعلى كل الروايات قد تكلم البشر ابتداء بمثل نظم القرآن، وذلك يقدح في كونه معجزًا كما ظنه عبد الله والجواب: هذا غير مستبعد إذا كان قدره القدر الذي لا يظهر فيه الإعجاز فسقطت شبهة عبدالله.المرتبة الثامنة: قوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيّتُونَ} قرأ ابن أبي عبلة وابن محيصن {لمائتون} والفرق بين الميت والمائت، أن الميت كالحي صفة ثابتة، وأما المائت فيدل على الحدوث تقول زيد ميت الآن ومائت غدًا، وكقولك يموت ونحوهما ضيق وضائق في قوله: {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} [هود: 12].المرتبة التاسعة: قوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ} فالله سبحانه جعل الإماتة التي هي إعدام الحياة والبعث الذي هو إعادة ما يفنيه ويعدمه دليلين أيضًا على اقتدار عظيم بعد الإنشاء والاختراع.وهاهنا سؤالات:السؤال الأول: ما الحكمة في الموت، وهلا وصل نعيم الآخرة وثوابها بنعيم الدنيا فيكون ذلك في الأنعام أبلغ؟ والجواب: هذا كالمفسدة في حق المكلفين لأنه متى عجل للمرء الثواب فيما يتحمله من المشقة في الطاعات صار إتيانه بالطاعات لأجل تلك المنافع لا لأجل طاعة الله، يبين ذلك أنه لو قيل لمن يصلي ويصوم إذا فعلت ذلك أدخلناك الجنة في الحال، فإنه لا يأتي بذلك الفعل إلا لطلب الجنة، فلاجرم أخره الله تعالى وبعده بالإماتة ثم الإعادة ليكون العبد عابدًا لربه بطاعته لا لطلب الانتفاع.السؤال الثاني: هذه الآية تدل على نفي عذاب القبر لأنه قال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ} ولم يذكر بين الأمرين الإحياء في القبر والإماتة والجواب: من وجهين: الأول: أنه ليس في ذكر الحياتين نفي الثالثة والثاني: أن الغرض من ذكر هذه الأجناس الثلاثة الإنشاء والإماتة والإعادة، والذي ترك ذكره فهو من جنس الإعادة. اهـ.
.قال الماوردي: قوله: {وَلَقَدْ خَلَقنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ}.فيه قولان:أحدهما: آدم استل من طين، وهذا قول قتادة، وقيل: لانه اسْتُلَ من قِبَل ربه.والثاني: أن المعني به كل إنسان، لأنه يرجع إلى آدم الذي خلق من سلالة من طين، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقيل: لأنه استل من نطفة أبيه، والسلالة من كل شيء صفوته التي تستل منه، قال الشاعر:وقال الزجاج: السلالة القليل مما ينسل، وقد تُسَمَّى، المضغة سلالة والولد سلالة إما لأنهما صفوتان على الوجه الأول، وإما لأنهما ينسلان على الوجه الثاني، وحكى الكلبي: أن السلالة الطين الذي إذا اعتصرته بين أصابعك خرج منه شيء، ومنه قول الشاعر: وحكى أبان بن تغلب أن السلالة هي التراب واستشهد بقول أمية بن أبي الصلت. {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطّْفَةً} النطفة هي ماء الذكر الذي يعلق منه الولد، وقد ينطلق اسم النطفة على كل ماء، قال بعض شعراء هذيل: قوله تعالى: {فِي قَرَارٍ مَّكينٍ} يعني بالقرار الرحم، ومكين: أي متمكن قد هيىء لاستقراره فيه.{ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} العلقة الدم الطري الذي خلق من النطفة سُمّيَ علقة لأنه أول أحوال العلوق.{فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} وهي قدر ما يمضغ من اللحم. {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًَا} وإنما بين الله أن الإِنسان تنتقل أحوال خلقه ليعلم نعمته عليه وحكمته فيه، وإن بعثه بعد الموت حيًا أهون من إنشائه ولم يكن شيئًا.{ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} فيه أربعة أوجه: أحدها: يعني بنفخ الروح فيه، وهذا قول ابن عباس والكلبي.والثاني: بنبات الشعر، وهذا قول قتادة.والثالث: أنه ذكر وأنثى، وهذا قول الحسن.والرابع: حين استوى به شبابه، وهذا قول مجاهد.ويحتمل وجهًا خامسًا: أنه بالعقل والتمييز.روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه لما نزلت هذه الآية إلى قوله: {ثَمَّ أَنشَأنَاهُ خَلْقًَا آخَرَ}. قال عمر بن الخطاب: فتبارك الله أحسن الخالقين فنزلت: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}. اهـ. .قال ابن عطية: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)}.هذا ابتداء كلام والواو في أوله عاطفة جملة الكلام على جملة وإن تباينت في المعاني، واختلف المفسرون في قوله: {الإنسان} فقال قتادة وغيره: أراد آدم عليه السلام لأنه استل من الطين ع ويجيء الضمير في قوله: {ثم جعلناه} عائدًا على ابن آدم وإن كان لم يذكر لشهرة الأمر وأن المعنى لا يصلح إلا له، نظير ذلك {حتى توارت بالحجاب} [ص: 32] وغيره، وقال ابن عباس وغيره المراد بقوله: {الإنسان} ابن آدم، و{سلالة من طين} صفوة الماء ع وهذا على أنه اسم الجنس ويترتب فيه أَنه سلالة من حيث كان الكل عن آدم أو عن أبويه المتغذيين بما يكون من الماء والطين وذلك السبع الذي جعل الله رزق ابن آدم، وسيجيء قول ابن عباس فيها إن شاء الله، وعلى هذا يجيء قول ابن عباس: إن السلالة هي صفوة الماء يعني المني، وقال مجاهد {سلالة من طين}: مني آدم ع وهذا نبيل إذ آدم طين وذريته من سلالة، وما يكون عن الشيء فهو سلالته، وتختلف وجوه ذلك الكون فمنه قولهم للخمر سلالة لأنها سلالة العنب ومنه قول الشاعر: الطويل:ومن اللفظ قول هند بنت النعمان بن بشير:
|