الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال أبو السعود: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان}.شروعٌ في بيان مبدأ خلقِ الإنسانِ وتقلُّبهِ في أطوارِ الخلقةِ وأدوارِ الفطرةِ بيانًا إجماليًّا إثرَ بيانِ حال بعضِ أفرادِه السُّعداءِ. واللاَّمُ جوابُ قسمٍ والواوُ ابتدائيَّةٌ. وقيل عاطفةٌ على ما قبلَها، والمرادُ بالإنسان الجنسُ أي وبالله لقد خلقنا جنسَ الإنسان في ضِمن خلقِ آدمَ عليه السَّلامُ خَلْقًا إجماليًّا حسبما تحقَّقته في سورة الحجِّ وغيرِها. وأمَّا كونُه مخلوقًا من سلالاتٍ جُعلتْ نُطَفًا بعد أدوارٍ وأطوارٍ فبعيدٌ {مِن سلالة} السُّلالةُ ما سُلَّ من الشَّيء واستُخرجَ منه. فإن فُعالة اسمٌ لما يحصُل من الفعلِ فتارةً تكون مقصودًا منه كالخُلاصةِ وأُخرى غيرَ مقصودٍ منه كالقُلامةِ والكُناسةِ والسُّلالةُ من قبيلِ الأوَّلِ، فإنَّها مقصودةٌ بالسَّلِّ. ومن ابتدائيةٌ متعلِّقةٌ بالخلقِ. ومن في قوله تعالى: {مِن طِينٍ} بيانيَّةٌ متعلِّقةٌ بمحذوف وقع صفةً لسُلالة أي خلقناهُ من سُلالةٍ كائنةٍ من طينٍ. ويجوزُ أنْ تتعلَّق بسُلالة على أنَّها بمعنى مسلولةٍ فهي ابتدائيةٌ كالأُولى. وقيل المرادُ بالإنسانِ آدمُ عليه السَّلامُ فإنَّه الذي خُلق من صفوةٍ سُلَّتْ من الطِّينِ وقد وقفت على التَّحقيق.{ثُمَّ جعلناه} أي الجنسَ باعتبار أفراده المغايرة لآدمَ عليه السَّلامُ أو جعلنا نسلَه على حذف المضاف إنْ أُريد بالإنسان آدمُ عليه السَّلامُ {نُّطْفَةٍ} بأن خلقناه منها أو ثمَّ جعلنا السُّلالةَ نُطفةً. والتَّذكيرُ بتأويل الجوهرِ أو المسلولِ أو الماءِ {فِى قَرَارٍ} أي مستقَرَ وهو الرَّحِمُ عبر عنها بالقرارِ الذي هو مصدرٌ مبالغةً. وقولُه تعالى: {مَّكِينٍ} وصفٌ لها بصفة ما استقرَّ فيها مثلُ: طريقٌ سائرٌ أو بمكانتها في نفسِها فإنَّها مكثتْ بحيث هي وأُحرزتْ.{ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً} أي دمًا جامدًا بأن أحلنا النُّطفة البيضاءَ علقةً حمراءَ. {فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً} أي قطعةَ لحمٍ لا استبانة ولا تمايزَ فيها {فَخَلَقْنَا المضغة} أي غالبَها ومعظمها أو كلَّها {عظاما} بأنْ صلبناها وجعلناها عمودًا للبدنِ على هيئاتٍ وأوضاعٍ مخصوصةٍ تقتضيها الحكمةُ {فَكَسَوْنَا العظام} المعهودة {لَحْمًا} من بقية المضغةِ أو ممَّا أنبتنا عليها بقدرتنا ممَّا يصلُ إليها أي كسونا كلَّ عظمٍ من تلك العظام ما يليقُ به من اللَّحمِ على مقدارٍ لائقٍ به وهيئةٍ مناسبةٍ له. واختلافِ العواطفِ للتَّنبيه على تفاوتِ الاستحالاتِ. وجمعُ العظامِ لاختلافِهما. وقرئ على التَّوحيدِ فيهما اكتفاءً بالجنسِ وبتوحيدِ الأوَّلِ فَقَطْ وبتوحيد الثَّاني فحسب {ثُمَّ أنشأناه خَلْقًَا ءَاخَرَ} هي صورةُ البدنِ أو الرُّوحِ أو القُوى بنفخه فيه، أو المجموعُ وثمَّ لكمالِ التَّفاوتِ بين الخلقينِ واحتجَّ به أبو حنيفة رحمه الله على أنَّ من غصبَ بيضةً فأفرختْ عنده لزمه ضمانُ البيضةِ لا الفرخُ لأنَّه خلقٌ آخرُ.{فَتَبَارَكَ الله} فتعالى شأنُه في علمه الشَّاملِ وقُدرتهِ الباهرة. والالتفاتُ إلى الاسم الجليل لتربيةِ المهابة وإدخالِ الرَّوعة والإشعارِ بأنَّ ما ذُكر من الأفاعيلِ العجيبة من أحكام الأُلوهيَّةِ وللإيذانِ بأنَّ حقَّ كلِّ مَن سمع ما فصل من آثار قُدرتهِ عز وعلا أو لاحظَه أنْ يُسارعَ إلى التَّكلُّمِ به إجلالًا وإعظامًا لشؤونهِ تعالى. {أَحْسَنُ الخالقين} بدلٌ من الجلالة وقيل نعتٌ بناء على أن الإضافة ليستْ لفظيَّةً وقيل خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: هُو أحسنُ الخالقينَ خَلْقًا، أي المقدِّرين تقديرًا، حُذف المميِّز لدلالة الخالقينَ عليه كما حُذف المأذونُ فيه في قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يقاتلون} لدلالة الصِّلةِ عليه، أي أحسنُ الخالقين خَلْقًا، فالحُسنُ للخلقِ. قيلَ نظيرُه قولُه عليه الصَّلاةُ والسلام: «إنَّ اللَّهَ جميلٌ يحبُّ الجمالَ» أي جميلٌ فعلُه فحُذف المضافُ وأقيم المضافُ إليه مقامَهُ فانقلبَ مرفُوعًا فاستكنَّ. رُوي أنَّ عبدَ اللَّه بن أبي سَرْحٍ كان يكتبُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحيَ فلمَّا انتهى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى قوله خلقًا آخرَ سارع عبدُ اللَّه إلى النُّطقِ به قبل إملائه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فقال: «اكتبْهُ هكذا نزلتْ» فشكَّ عبدُ اللَّه فقال: إنْ كان محمَّدٌ يُوحى إليه فأنا كذلك فلحقَ بمكَّة كافرًا ثمَّ أسلمَ يوم الفتحِ وقيل ماتَ على كُفرِه. ورَوى سعيدُ بنُ جُبيرٍ عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنَّه قال لمَّا نزلتْ هذه الآية: قال عمرُ رضي الله عنه: فتباركَ اللَّهُ أحسنُ الخالقين، فقال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «هكذا نزلَ يا عمرُ». وكان رضي الله عنه يفتخرُ بذلك ويقولُ: «وافقتُ ربِّي في أربعٍ، الصَّلاةُ خلفَ المُقامِ وضربُ الحجابِ على النِّسوةِ. وقولي لهنَّ أو ليبدله الله خيرًا منكنَّ فنزل قولُه تعالى: {عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ} الآية، والرابعُ فتباركَ اللَّهُ أحسنُ الخالقينَ» انظر كيفَ وقعتْ هذه الواقعةُ سببًا لسعادةِ عمرَ رضي الله عنه وشقاوة ابن أبي سَرْح حسبما قال تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} لا يقالُ فقد تكلَّم البشرُ ابتداءً بمثل نظمِ القُرآن وذلك قادحٌ في إعجازِه لما أنَّ الخارجَ عن قُدرة البشرِ ما كان مقدارَ أقصرِ السُّورِ على أنَّ إعجازَ هذه الآيةِ الكريمة منوطٌ بما قبلها كما تُعربُ عنه الفاءُ فإنَّها اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لمضمون ما قبله.{ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك} أي بعد ما ذُكر من الأمورِ العجيبةِ حسبما يُنبىء عنه ما في اسمِ الإشارة مِن معنى البُعد المُشعرِ بعلوِّ رُتبةِ المشارِ إليه وبُعد منزلتهِ في الفضلِ والكمالِ وكونهِ بذلك ممتازًا منزَّلًا منزلةَ الأمور الحسيَّةِ {لَمَيّتُونَ} لصائرونَ إلى الموتِ لا محالَة كما تُؤذِنُ به صيغةُ النَّعتِ الدَّالَّةِ على الثُّبوتِ دُون الحدوثِ الذي تُفيده صيغةُ الفاعلِ وقد قرئ لمائتون.{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة} أي عند النَّفخةِ الثَّانيةِ {تُبْعَثُونَ} من قبورِكم للحسابِ والمُجازاةِ بالثَّوابِ والعقابِ. اهـ..قال الألوسي: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ}.لما ذكر سبحانه أولًا أحوال السعداء عقبه بذكر مبدئهم ومآل أمرهم في ضمن ما يعمهم وغيرهم وفي ذلك إعظام للمنة عليهم وحث على الاتصاف بالصفات الحميدة وتحمل مؤن التكليفات الشديدة أو لما ذكر إرث الفردوس عقبه بذكر البعث لتوقفه عليه أو لما حث على عبادته سبحانه وامتثال أمره عقبه بما يدل على ألوهيته لتوقف العبادة على ذلك ولعل الأول أولى في وجه مناسبة الآية لما قبلها، ويجوز أن يكون مجموع الأمور المذكورة، واللام واقعة في جواب القسم والواو للاستئناف.وقال ابن عطية: هي عاطفة جملة كلام على جملة وإن تباينتا في المعاني وفيه نظر، والمراد بالإنسان الجنس، والسلالة من سللت الشيء من الشيء إذا استخرجته منه فهي ما سل من الشيء واستخرج منه فإن فعالة اسم لما يحصل من الفعل فتارة تكون مقصودة منه كالخلاصة وأخرى غير مقصودة منه كالقلامة والكناسة والسلالة من قبيل الأول فإنها مقصودة بالسل.وذكر الزمخشري أن هذا البناء يدل على القلة، ومن الأولى ابتدائية متعلقة بالخلق، ومن الثانية يحتمل أن تكون كذلك إلا أنها متعلقة بسلالة على أنها بمعنى مسلولة أو متعلقة بمحذوف وقع صفة لسلالة، ويحتمل أن تكون على هذا تبعيضية وأن تكون بيانية، وجوز أن يكون {مِن طِينٍ} بدلًا أوعطف بيان بإعادة الجار، وخلق جنس الإنسان مما ذكر باعتبار خلق أول الأفراد وأصل النوع وهو آدم عليه السلام منه فيكون الكل مخلوقًا من ذلك خلقًا إجماليًا في ضمن خلقه كما مر تحقيقه، وقيل: خلق الجنس من ذلك باعتبار أنه مبدأ بعيد لأفراد الجنس فإنهم من النطف الحاصلة من الغذاء الذي هو سلالة الطين وصفوته، وفيه وصف الجنس بوصف أكثر أفراده لأن خلق آدم عليه السلام لم يكن كذلك أو يقال ترك بيان حاله عليه السلام لأنه معلوم، واقتصر على بيان حال أولاده وجاء ذلك في بعض الروايات عن ابن عباس، وقيل المراد بالطين آدم عليه السلام على أنه من مجاز الكون، والمراد بالسلالة النطفة وبالإنسان الجنس ووصفه بما ذكر باعتبار أكثر أفراده أو يقال كما قيل آنفًا، ولا يخفى خفاء قرينة المجاز وعدم تبادر النطفة من السلالة، وقيل المراد بالإنسان آدم عليه السلام وروى ذلك عن جماعة وما ذهبنا إليه أولًا أولى، والضمير {ثُمَّ جعلناه نُطْفَةً} عائد على الجنس باعتبار أفراده المغايرة لآدم عليه السلام، وإذا أريد بالإنسان أولًا آدم عليه السلام فالضمير على ما في البحر عائد على غير مذكور وهو ابن آدم، وجاز لوضوح الأمر وشهرته وهو كما ترى أو على الإنسان والكلام على حذف مضاف أي ثم جعلنا نسله، وقيل يراد بالإنسان أولًا آدم عليه السلام وعند عود الضمير عليه ما تناسل منه على سبيل الاستخدام، ومن البعيد جدًا أن يراد بالإنسان أفراد بني آدم والضمير عائد عليه ويقدر مضاف في أول الكلام أي ولقد خلقنا أصلًا الإنسان الخ، ومثله أن يراد بالإنسان الجنس أو آدم عليه السلام والضمير عائد على {سلالة} والتذكير بتأويل المسلول أو الماء أي ثم صيرنا السلالة نطفة.والظاهر أن {نُّطْفَةٍ} في سائر الوجوه مفعولًا ثانيًا للجعل على أنه بمعنى التصيير وهو على الوجه الأخير ظاهر، وأما على وجه عود الضمير على الإنسان فلابد من ارتكاب مجاز الأول بأن يراد بالإنسان ما سيصير إنسانًا، ويجوز أن يكون الجعل بمعنى الخلق المتعدي إلى مفعول واحد ويكون {نُّطْفَةٍ} منصوبًا بنزع الخافض واختاره بعض المحققين أي ثم خلقنا الإنسان من نطفة كائنة {فِى قَرَارٍ} أي مستقر وهو في الأصل مصدر من قر يقر قرارًا بمعنى ثبت ثبوتًا وأطلق على ذلك مبالغة؛ والمراد به الرحم ووصفه بقوله تعالى: {مَّكِينٍ} أي متمكن مع أن التمكن وصف ذي المكان وهو النطفة هنا على سبيل المجاز كما يقال طريق سائر، وجوز أن يقال: إن الرحم نفسها متمكنة ومعنى تمكنها أنها لا تنفصل لثقل حملها أولًا تمج ما فيها فهو كناية عن جعل النطفة محرزة مصونة وهو وجه وجيه.{ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً} أي دمًا جامدًا وذلك بإفاضة اعراض الدم عليها فتصيرها دمًا بحسب الوصف، وهذا من باب الحركة في الكيف {فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً} أي قطعة لحم بقدر ما يمضغ لا استبانة ولا تمايز فيها، وهذا التصيير على ما قيل بحسب الذات كتصيير الماء حجرًا وبالعكس، وحقيقته إزالة الصورة الأولى عن المادة وإفاضة صورة أخرى عليها وهو من باب الكون والفساد ولا يخلو ذلك من الحركة في الكيفية الاستعدادية فإن استعداد الماء مثلًا للصورة الأولى الفاسدة يأخذ في الانتقاص واستعداده للصورة الثانية الكائنة يأخذ في الاشتداد ولا يزال الأول ينقص والثاني يشتد إلى أن تنتهي المادة إلى حيث تزول عنها الصورة الأولى فتحدث فيها الثانية دفعة فتتوارد هذه الاستعدادات التي هي من مقولة الكيف على موضوع واحد {فَخَلَقْنَا المضغة} غالبها ومعظمها أو كلها {عظاما} صغارًا وعظامًا حسبما تقتضيه الحكمة وذلك التصيير بالتصليب لما يراد جعله عظامًا من المضغة؛ وهذا أيضًا تصيير بحسب الوف فيكون من الباب الأول.وفي كلام العلامة البيضاوي إشارة ما إلى مجموع ما ذكرنا وهو يستلزم القول بأن النطفة والعلقة متحدان في الحقيقة وإنما الاختلاف بالاعراض كالحمرة والبياض مثلًا وكذا المضغة والعظام متحدان في الحقيقة وإنما تلاختلاف بنحو الرخاوة والصلابة وأن العلقة والمضغة مختلفان في الحقيقة كما أنهما مختلفان بالإعراض.والظاهر أنه تتعاقب في جميع هذه الأطوار على مادة واحدة صور حسب تعاقب الاستعدادات إلى أن تنتهي إلى الصورة الإنسانية، ونحن نقول به إلى أن يقوم الدليل على خلافه فتدبر {فَكَسَوْنَا العظام} المعهودة {لَحْمًا} أي جعلناه ساترًا لكل منها كاللباس، وذلك اللحم يحتمل أن يكون من لحم المضغة بأن لم تجعل كلها عظامًا بل بعضها ويبقى البعض فيمد على العظام حتى يسترها، ويحتمل أن يكون لحمًا آخر خلقه الله تعالى على العظام من دم في الرحم.وجمع {العظام} دون غيهرا مما في الأطوار لأنها متغايرة هيئة وصلابة بخلاف غيرها ألا ترى عظم الساق وعظم الأصابع وأطراف الأضلاع، وعدة العظام مطلقًا على ما قيل مائتان وثمانية وأربعون عظمًا وهي عدة رحم بالجمل الكبير، وجعل بعضهم هذه عدة أجزاء الإنسان والله تعالى أعلم.وقرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، وأبان، والمفضل، والحسن، وقتادة، وهرون والجعفي.
|