الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال القاسمي في الآيات السابقة: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ}.هم عاد أو ثمود. قال الشهاب: ليس في الآية تعيين لهؤلاء. لكن الأول مأثور عن ابن عباس رضي الله عنهما. وأيده في الكشف بمجيء قصتهم بعد قصة نوح في سورة الأعراف وهود وغيرهما. وعليه أكثر المفسرين. ومن ذهب إلى أنهم ثمود قوم صالح عليه السلام، استدل بذكر الصيحة لأنهم المهلكون بها. كما صرح به في هذه السورة.{فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ} أي: نعّمناهم: {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} أي: لعزة أنفسكم، بالتذلل لمثلكم: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} أي من الأجداث أحياء كما كنتم: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} تكرير لتأكيد البعد. أي: بَعُدَ الوقوعُ أو الصحةُ لما توعدون من البعث: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} أي: يموت بعض ويولد بعض. لينقرض قرن ويأتي قرن آخر {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} أي: العقوبة الهائلة، أو صيحة ملك: {بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً} أي: كغثاء السيل: {فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي: هلاكًا لهم. إخبار أو دعاء. اهـ..التفسير المأثور: قال السيوطي:{ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31)}.أخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله: {قرنًا} قال: أمة.{هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36)}.أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {هيهات هيهات} قال: بعيد بعيد.وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة {هيهات لما توعدون} قال: تباعد ذلك في أنفسهم يعني. البعث بعد الموت.{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)}.أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {فجعلناهم غثاء} قال: جعلوا كالشيء الميت البالي من الشجر.وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة {فجعلناهم غثاء} قال: هو الشيء البالي.وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه {فجعلناهم غثاء} قال: كالرميم الهامد الذي يحتمل السيل ثمود احتملوا كذلك. اهـ..فوائد لغوية وإعرابية: قال السمين:قوله: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ}: اسمُ فعلٍ معناه: بَعُدَ، وكُرِّر للتوكيدِ، فليسَتِ المسألةُ من التنازعِ. قال جرير:وفَسَّره الزجَّاجُ في ظاهر عبارتِه بالمصدرِ فقال: البُعْدُ لِما تُوعدون، أو بَعُدَ لِما توعدون. فظاهرُها أنَّه مصدرٌ بدليلِ عَطْفِ الفعل عليه. ويمكنُ أَنْ يكونَ فَسَّر المعنى فقط. و هيهاتَ اسمُ فعلٍ قاصرٍ يرفعُ الفاعلَ، وهنا قد جاء ما ظاهرُه الفاعلُ مجرورًا باللامِ: فمنهم مَنْ جعله على ظاهِره وقال: ما توعدون فاعلٌ به، وزِيْدت فيه اللامُ. التقديرُ: بَعُدَ بَعُدَ ما تُوْعَدُون. وهو ضعيفٌ إذ لم يُعْهَدْ زيادتُها في الفاعلِ. ومنهم مَنْ جَعَل الفاعلَ مضمرًا لدلالةِ الكلامِ عليه، فقَدَّره أبو البقاء: هيهاتَ التصديقُ أو الصحةُ لِما تُوْعَدون. وقدَّره غيرُه: بَعُدَ إخراجُكم، و لِما تُوْعدون للبيانِ. قال الزمخشريُّ: لبيانِ المُسْتَبْعَدِ ما هو بَعْدَ التصويبِ بكلمةِ الاستبعادِ؟ كما جاءَتِ اللامُ في {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23] لبيانِ المُهَيَّتِ به. وقال الزجاج: البُعْدُ لِما تُوعدون. فجعله مبتدًا، والجارُّ بعدَه الخبرُ. قال الزمخشري: فإنْ قلت: ما تُوعدون هو المستبعَدُ، ومِنْ حَقِّه أَنْ يرتفع ب هيهاتَ كما ارتفع بقولِه: فما هذه اللام؟ قلت: قال الزجاجُ في تفسيرِه: البُعْدُ لِما تُوْعَدون، أو بُعْدٌ لِما تُوْعَدون فيمَنْ نَوَّن فَنَزَّلَه مَنْزِلَةَ المصدر. قال الشيخ: وقولُ الزمخشري: فَمَنْ نَوَّنَه نَزَّله منزلةَ المصدرِ، ليس بواضحٍ، لأنهم قد نَوَّنوا أسماءَ الأفعال ولا نقول: إنها إذا نُوِّنَتْ تَنَزَّلَتْ منزلةَ المصادر. قلت: الزمخشريُّ لم يَقُل كذا، إنما قال فيمن نَوَّن نَزَّله منزلةَ المصدرِ لأجلِ قوله: {أو بُعْدٌ} فالتنوينُ علةٌ لتقديره إياه نكرةً لا لكونِه مُنَزَّلًا منزلةَ المصدرِ؛ فإنَّ أسماءَ الأفعال ما نُوِّن منها نكرةٌ، وما لم يُنَوَّنْ معرفةٌ نحو: صَهْ وصَهٍ، تقديرُ الأول بالسكوت، والثاني بسكوتٍ ما.وقال ابن عطية: طَوْرًا تلي الفاعلَ دون لامٍ، تقول: هيهات مجيءُ زيدٍ أي: بَعُدَ، وأحيانًا يكون الفاعلُ محذوفًا عند اللام كهذه الآيةِ. التقديرُ: بَعُدَ الوجودُ لِما تُوْعدون. ولم يَسْتَجْوِزْه الشيخُ ومن حيث قولُه حُذِفَ الفاعلُ، والفاعلُ لا يُحْذَفُ. ومن حيث إن فيه حَذْفَ المصدرِ وهو الوجودُ وإبقاءَ معمولِه وهو لِما تُوعدون. وهيهاتَ الثاني تأكيدٌ للأولِ تأكيدًا لفظيًا. وقد جاء غيرَ مؤكَّدٍ كقوله: وقال آخر: وقال رؤبة: قال القيسي شارحُ أبيات الإِيضاح: وهذا مِثْلُ قولِك: بَعُدَ بُعْدُه؛ وذلك أنه بنى من هذه اللفظةِ فَعْلالًا، فجاء به مجيءَ القَلْقَال والزَّلْزال.والألفُ في هيهات غيرُ الألفِ في هيهاؤه، وهي في هيهات لامُ الفعلِ الثانيةُ كقاف الحَقْحَقَة الثانية، وهي في هيهاؤه ألف الفَعْلال الزائدة.وفي هذه اللفظةِ لغاتٌ كثيرةٌ تزيد على الأربعين، وأذكر هنا مشهورَها وما قرئ به: فالمشهورُ هَيْهات بفتح التاءِ من غيرِ تنوينٍ، بُني لوقوعِه موقعَ المبنيِّ أو لشِبْهِه بالحرفِ وقد تقدَّم تحقيق ذلك. وبها قرأ العامَّةُ وهي لغة الحجازيين. و هَيْهاتًا بالفتح والتنوين، وبها قرأ أبو عمروٍ في روايةِ هارون عنه. ونسبها ابن عطية لخالد بن إلياس. و هَيْهاتٌ بالضمِّ والتنوين وبها قرأ الأحمر وأبو حيوة. وبالضم من غير تنوين، وتروى عن أبي حيوةَ أيضًا، فعنه فيها وجهان، وافقه أبو السَّمَّال في الأول دونَ الثانية.و هَيْهاتٍ بالكسر والتنوين، وبها قرأ عيسى وخالد بن إلياس، وبالكسرِ من غير تنوين، وهي قرءاةُ أبي جعفرٍِ وشَيْبة، وتروى عن عيسى أيضًا، وهي لغة تميم وأسد. وهَيْهاتْ بإسكانِ التاء، وبها قرأ عيسى أيضًا وخارجة عن أبي عمرو والأعرج. و هَيْهاهْ بالهاء آخرًا وصلًا ووَقْفًا. و أَيْهاتَ بإبدال الهاء همزة مع فتح التاء، وبهاتين قرأ بعضُ القرَّاء فيما نقل أبو البقاء. فهذه تسعُ لغاتٍ قد قرئ بهن، ولم يتواتَرْ منها غيرُ الأولى.ويجوز إبدالُ الهمزةِ من الهاء الأولى في جميعِ ما تقدَّم فيَكْمُل بذلك ستَ عشرةَ لغةً. و إيهان بالنون آخرًا، و أيهى بالألفِ آخرًا. فَمَنْ فَتَح التاءَ قالوا فهي عنده اسم مفرد. ومَنْ كسرها فهي عنده جمعٌ تأنيثٍ كزَيْنبات وهنِْدات ويُعزى هذا لسيبويه لأنه قال: هي مثل بَيْضات فنُسِب إليه أنه جَمْعٌ مِنْ ذلك، حتى قال بعض النحويين: مفردُها هَيْهَة مثل بَيْضَة. وليس بشيءٍ بل مفردُها هَيْهات قالوا: وكان ينبغي على أصلِه أن يُقال فيها: هَيْهَيَات بقلب ألف هَيْهات ياءً لزيادتِها على الأربعة نحو: مَلْهَيات ومَغْوَيَات ومَرْمَيات؛ لأنها من بناتِ الأربعة المضعَّفة من الياء من باب حاحَيْت وصِيصِيَة. وأصلُها بوزنِ القَلْقَلة والحَقْحَقَةُ فانقلبت الياءُ ألفًا لتحرُّكِها وانفتاحِ ما قبلَها فصارَتْ هَيْهاة كالسَّلْقاة والجَعْباة، وإنْ كانت الياءُ التي انقلبَتْ عنها ألفُ سَلْقاة و جَعْباة زائدةً، وياء هَيْهَيَة أصلًا، فلمَّا جُمِعت كان قِياسُها على قولِهم أَرْطَيات وعَلْقيات أن يقلولوا فيها هَيْهَيَات، إلاَّ أنهم حَذَفوا الألف لالتقاء الساكنين لما كانت في آخر اسمٍ مبنيٍّ، كما حَذَفوها في ذان واللتان وتان ليَفصلوا بين الألفاتِ في أواخر المبنية والألفات في أواخر المتمكنة، وعلى هذا حذفوها في أُوْلات وذوات لتخالِفَ ياء حَصَيَات و نَوَيات.وقالوا: مَنْ فتح تاء هيهات فحقُّه أَنْ يكتبَها هاء لأنها في مفرد كتمرة ونواة. ومَنْ كسرها فَحَقُّه أَنْ يكتبَها تاءً لأنها في جمعٍ كهندات. وكذلك حكمُ الوقفِ سواءٌ. ولا التفاتَ إلى لغة كيف الإِخوةُ والأخَواهْ ولا هذه ثَمَرَتْ لقلَّتِها. وقد رُسِمَتْ في المصحفِ بالهاء.واختلف القراءُ في الوقفِ عليها: فمنهم مَنْ اتَّبع الرسمَ فَوَقَفَ بالهاءِ وهما الكسائيُّ والبزيُّ عن ابن كثير. ومنهم مَنْ وَقَفَ بالتاءِ، وهم الباقونَ. وكان ينبغي أَنْ يكونَ الأكثرُ على الوقفِ بالهاءِ لوجهين، أحدُهما: موافقةُ الرسمِ. والثاني: أنهم قالوا: المفتوح اسمٌ مفردٌ أصله هَيْهَيَة كزَلْزَلة وقَلْقَلَة من مضاعفِ الرُّباعي. وقد تقدَّم: أنَّ المفردَ يُوقف على تاء تأنيثِه بالهاء.وأمَّا التنوينُ فهو على قاعدةِ تنوينِ أسماء الأفعال: دخولُه دالٌّ على التنكيرِ، وخروجُه دالٌّ على التعريف. قال القَيْسِيُّ: مَنْ نَوَّن اعتقد تنكيرَها وتَصَوَّر معنى المصدرِ النكرةِ كِأنه قال: بُعْدًا بُعْدًا. ومَنْ لم ينوِّنْ اعتقد تعريفَها وتَصَوَّر معنى المصدرِ المعرفةِ كأنه قال: البُعْدَ البُعْدَ فجعل التنوينَ دليلَ التنكيرِ وعدمَه دليلَ التعريفِ. انتهى. ولا يُوجد تنوينُ التنكير إلاَّ في نوعين: أسماءِ الأفعال وأسماءِ الأصوات نحو: سيبويهِ وسيبويهٍ، وليس بقياسٍ: بمعنى أنه ليس لك أَنْ تُنَوِّن منها ما شِئْتَ بل ما سُمِع تنوينُه اعَتُقِد تنكيرُه. والذي يُقال في القراءاتِ المتقدمةِ: إنَّ مَنْ نَوَّن جعله للتنكيرِ كما تقدَّمَ، ومَنْ لم يُنَوِّنْ جَعَلَ عدَم التنوينَ للتعريفِ. ومَنْ فَتَحَ فللخِفَّةِ وللإِتْباع، ومَنْ كَسَرَ فعلى أصلِ التقاءِ الساكنين، ومن ضم فتشبيهًا بقبلُ وبعدُ، ومَنْ سَكَّن فلأنَّ أصلَ البناءِ السكونُ، ومَنْ وقف بالهاءِ فإتْباعًا للرسم، ومن وقف بالتاءِ فعلى الأصلِ سواءً كُسِرت التاءُ أو فُتحت؛ لأنَّ الظاهرَ أنهما سواءٌ، وإنما ذلك مِنْ تغييرِ اللغاتِ، وإن كان المنقولُ مِنْ مذهب سيبويه ما تقدَّم. هكذا ينبغي أن تُعَلَّل القراءاتُ المتقدمةُ.وقال ابنُ عطية فيمَنْ ضَمَّ ونَوَّن: إنه اسمٌ معربٌ مستقلٌ مرفوعٌ بالابتداء، وخبرُه لِما تُوْعَدون أي: البعدُ لوعدكم كما تقول: النُّجح لسَعْيك. وقال الرازي في اللوامح: فأمَّا مَنْ رَفع ونَوَّنَ احتمل أَنْ يكونا اسمين متمكنين مرفوعين بالابتداء، خبرُهما من حروف الجر بمعنى: البُعْدُ لِما تُوعدون. والتكرارُ للتأكيد. ويجوز أَنْ يكونا اسمًا للفعل. والضمُّ للبناء مثل: حَوْبُ في زَجْرِ الإِبل، لكنه نَوَّنه نكرةً. قلت: وكان ينبغي لابنِ عطيةَ ولأبي الفضل أن يَجْعلاه اسمًا أيضًا في حالةِ النصبِ مع التنوين، على أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الفعلِ.قرأ ابنُ أبي عبلةَ {هَيْهات هَيْهات ما تُوْعدون} من غير لامِ جرٍّ. وهي واضحةٌ مؤيِّدَةٌ لمدَّعي زيادتِها في قراءةِ العامَّة.و ما في {لِما تُوْعدون} تحتمل المصدريةَ أي: لِوَعْدِكم، وأَنْ تكونَ بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ أي: تُوْعَدُوْنَه.{إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37)}.قوله: {إِنْ هِيَ}: هي ضميرٌ يُفَسِّره سياقُ الكلامِ أي: إنْ حياتُكم إلاََّ حياتُنا. قال الزمخشري: هذا ضميرٌ لا يُعْلَمُ ما يُرادُ به إلاَّ بما يَتْلوه مِنْ بيانِه. وأصلُه: إنِ الحياةُ إلاَّ حياتُنا الدنيا، فوَضَعَ هي مَوْضِعَ حياتُنا لأنَّ الخبرَ يَدُلُّ عليها ويُبَيِّنها. ومنه هي النفس تتحمَّل ما حَمَلت و هي العربُ تقولُ ما شاءَتْ. وقد جَعَلَ بعضُهم هذا القِسْمَ ممَّا يُفَسَّر بما بعدَه لفظًا ورتبةً ونسبه إلى الزمخشريِّ متعلقًا بهذا الكلام الذي نقلتُه عنه، لا تَعَلُّقَ له في ذلك.قوله: {نَمُوتُ وَنَحْيَا} جملةٌ مفسِّرةٌ لما ادَّعَوْه مِنْ أَنْ حياتَهم ما هي إلاَّ كذا. وزعم بعضُهم أنَّ فيها دليلًا على عدمِ الترتيبِ في الواو، إذ المعنى: نحيا ونموتُ إذ هو الواقعُ. ولا دليلَ فيها؛ لأنَّ الظاهرَ مِنْ معناها: يموت البعض مِنَّا، ويَحْيا آخرون، وهَلُمَّ جرَّا. يُشيرون إلى انقراضِ العصرِ وخَلْفِ غيرِه مكانَه. وقيل: نموت نحن ويَحْيا أبناؤنا. وقيل: القومُ يعتقدونَ الرَّجْعَةَ أي: نموت ثم نَحْيا بعد ذلك الموتِ.{قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40)}.قوله: {عَمَّا قَلِيلٍ}: في ما هذه وجهان، أحدهما: أنها مزيدةٌ بينَ الجارِّ ومجرورِه للتوكيدِ كما زِيْدَتْ في الباءِ نحو: {فَبِمَا رَحْمَةٍ} [آل عمران: 159]. وفي مِنْ نحو {مِّمَّا خطيائاتهم} [نوح: 25]. و{قليلٍ} صفةٌ لزمنٍ محذوفٍ أي عَنْ زمنٍ قليل.والثاني: أنها غيرُ زائدةٍ بل هي نكرةٌ بمعنى شيء أو زمن. و{قليل} صفتُها أو بدلٌ منها. وهذا الجارُّ فيه ثلاثةُ أوجهٍ. أحدُها: أنَّه متعلق بـ قولِه: {لَّيُصْبِحُنَّ} أي لَيُصْبِحُن عن زمنٍ قليل نادمين. والثاني: أنه متعلق بـ {نادمين}. وهذَا على أحدِ الأقوالِ في لام القسم، وذلك أنَّ فيها ثلاثةَ أقوال: جوازَ تقديمِ معمولِ ما بعدها عليها مطلقًا. وهو قول الفراء وأبي عبيدة. والثاني: المَنْعُ مطلقًا وهو قولُ جمهورِ البصريين. والثالث: التفصيلُ بين الظرفِ وعديلِه، وبين غيِرهما، فيجوزُ فيهما الاتساعُ، ويمتنعُ في غيرِهما، فلا يجوز في: {والله لأضربنَّ زيدًا}: {زيدًا لأضرِبَنَّ} لأنه غيرُ ظرفٍ ولا عديلِه.والثالث من الأوجه المتقدمة: أنَّه متعلق بـ محذوفٍ تقديرُه: عَمَّا قليلٍ نُنْصَرُ حُذِف لدلالةِ ما قبلَه عليه. وهو قوله: {رَبِّ انْصُرْني}.وقرئ: {لَتُصْبِحُنَّ} بتاءِ الخطابِ على الالتفاتِ، أو على أن القولَ صدرَ من الرسولِ لقومِه بذلك.{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)}.قوله: {غُثَاءً}: مفعولٌ ثانٍ للجَعْل بمعنى التصيير. والغُثاء: قيل هو الجُفاء وقد تقدَّم في الرعد. قاله الأخفش. وقال الزجاج: هو البالي مِنْ ورق الشجر، إذا جرى السيلُ خالَطَ زَبَدَه. وقيل: كل ما يُلْقيه السَّيْلُ والقِدْرُ مِمَّا لا يُنْتَفَعُ به، وبه يُضْرَبُ المَثَلُ في ذلك. ولامُه واوٌ لأنه مِنْ غثا الوادي يَغْثُو غَثْوًَا وكذلك غَثَت القِدْرُ. وأمَّا غَثِيَتْ نفسُه تَغْثِي غَثَيانًا أي: خَبُثَتْ فهو قريبٌ مِنْ معناه، ولكنه مِنْ مادة الياء. وتُشَدَّدُ ثاء الغُثَّاء وتُخَفَّفُ وقد جُمع على أَغْثاء وهو شاذُّ، بل كان قياسُه أن يُجْمَعَ على أَغْثِيَة كأَغْرِبة، أو على غِثْيان كغِرْبان وغِلْمان. وأنشدوا لامرئ القيس: بتشديد الثاء وتخفيفها والجمع أي: والأَغْثاء.قوله: {فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ}: بُعْدًا: مصدرٌ بَدَلٌ من اللفظِ بفعلِه، فناصبُه واجبُ الإِضمارِ لأنَّه بمعنى الدعاءِ عليهم. والأصلُ: بَعُدَ بُعْدًَا وبَعَدًا نحو: رَشَدَ رُشْدًا ورَشَدًا. وفي هذه اللامِ قولان أحدُهما: وهو الظاهرُ أنَّها متعلقةٌ بمحذوفٍ للبيانِ كهي في سَقْيًا له وجَدْعًا له. قاله الزمخشري. الثاني: أنها متعلقةٌ ب بُعْدًا. قاله الحوفي. وهذا مردودٌ؛ لأنه لا يُحْفَظُ حَذْفُ هذه اللامِ ووصولُ المصدرِ إلى مجرورِها البتةَ، ولذلك منعوا الاشتغالَ في قوله: {والذين كَفَرُواْ فَتَعْسًا لَّهُمْ} [محمد: 8] لأنَّ اللام لا تتعلَّقُ ب تَعْسًا بل بمحذوفٍ، وإن كان الزمخشريُّ جَوَّزَ ذلك، وسيأتي في موضِعه إنْ شاءَ الله تعالى. اهـ.
|