الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وينسب إلى قطرب أن الرحمن والرحيم يدلان على معنى واحد من الصفة المشبهة فهما متساويان وجعل الجمع بينهما في الآية من قبيل التوكيد اللفظي ومال إليه الزجاج وهو وجه ضعيف إذ التوكيد خلاف الأصل والتأسيس خير من التأكيد والمقام هنا بعيد عن مقتضى التوكيد.وقد ذكرت وجوه في الجمع بين الصفتين ليست بمقنعة.وقد ذكر جمهور الأئمة أن وصف الرحمن لم يطلق في كلام العرب قبل الإسلام وأن القرآن هو الذي جاء به صفة لله تعالى فلذلك اختص به تعالى حتى قيل إنه اسم له وليس بصفة واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن} [الفرقان: 60] وقال: {وهم يكفرون بالرحمن} [الرعد: 30] وقد تكرر مثل هاتين الآيتين في القرآن وخاصة في السور المكية مثل سورة الفرقان وسورة الملك وقد ذكر الرحمن في سورة الملك باسمه الظاهر وضميره ثماني مرات مما يفيد الاهتمام بتقرير هذا الاسم لله تعالى في نفوس السامعين فالظاهر أن هذا الوصف تنوسي في كلامهم، أو أنكروا أن يكون من أسماء الله.ومن دقائق القرآن أنه آثر اسم الرحمن في قوله: {ما يمسكهن إلا الرحمن} في [سورة الملك: 19]، وقال: {ما يمسكهن إلا الله} في [سورة النحل: 79] إذ كانت آية سورة الملك مكية وآية سورة النحل القدر النازل بالمدينة من تلك السورة، وأما قول بعض شعراء بني حنيفة في مسيلمة:
فإنما قاله بعد مجئ الإسلام وفي أيام ردة أهل اليمامة، وقد لقبوا مسيلمة أيامئذٍ رحمن اليمامة وذلك من غلوهم في الكفر.وإجراء هذين الوصفين العليين على اسم الجلالة بعد وصفه بأنه رب العالمين لمناسبة ظاهرة للبليغ لأنه بعد أن وصف بما هو مقتضى استحقاقه الحمد من كونه رب العالمين أي مدبر شؤونهم ومبلغهم إلى كمالهم في الوجودين الجثماني والروحاني، ناسب أن يتبع ذلك بوصفه بالرحمن أي الذي الرحمة له وصف ذاتي تصدر عنه آثاره بعموم واطراد على ما تقدم، فلما كان ربًا للعالمين وكان المربوبون ضعفاء كان احتياجهم للرحمة واضحًا وكان ترقبهم إياها من الموصوف بها بالذات ناجحًا.فإن قلت إن الربوبية تقتضي الرحمة لأنها إبلاغ الشيء إلى كماله شيئًا فشيئًا وذلك يجمع النعم كلها، فلماذا احتيج إلى ذكر كونه رَحمانًا؟ قلت لأن الرحمة تتضمن أن ذلك الإبلاغ إلى الكمال لم يكن على وجه الإعنات بل كان برعاية ما يناسب كل نوع وفرد ويلائم طوقه واستعداده، فكانت الربوبية نعمة، والنعمة قد تحصل بضرب من الشدة والأذى، فأتبع ذلك بوصفه بالرحمن تنبيهًا على أن تلك النعم الجليلة وصلت إلينا بطريق الرفق واليسر ونفي الحرج، حتى في أحكام التكاليف والمناهي والزواجر فإنها مرفوقة باليسر بقدر ما لا يبطل المقصود منها، فمعظم تدبيره تعالى بنا هو رحمات ظاهرة كالتمكين من الأرض وتيسير منافعها، ومنه ما رحمته بمراعاة اليسر بقدر الإمكان مثل التكاليف الراجعة إلى منافعنا كالطهارة وبث مكارم الأخلاق، ومنها ما منفعته للجمهور فتتبعها رحمات الجميع لأن في رحمة الجمهور رحمة بالبقية في انتظام الأحوال كالزكاة.وقد اختلف في أن لفظ رحمن لو لم يقرن بلام التعريف هل يصرف أو يمنع من الصرف؟ قال في الكافية: النون والألف إذا كانا في صفة فشرط منعه من الصرف انتفاء فَعلانة، وقيل وجود فَعْلى، ومن ثم اختلف في رحمن، وبنو أسد يصرفون جميع فَعلان لأنهم يقولون في كل مؤنث له فعلانة واختار الزمخشري والرضى وابن مالك عدم صرفه. اهـ. .من لطائف وفوائد المفسرين: .قال في ملاك التأويل: قوله تعالى: {الرحمن الرحيم} فيها سؤال واحد وهو أن يقول القائل: ما وجه الفصل بهاتين الصفتين العليتين من قوله: {الرحمن الرحيم} بين الصفتين المقتضيتين ملك الدارين بما فيها وهما {رب العالمين} {ملك يوم الدين} من حيث أن {الحمد لله رب العالمين} يتضمن أن لا رب سواه فهو ملك الكل فقد كان المطابق لهذا إيصال ملك يوم الدين به حتى يقع وصفه بملك الدارين جميعًا وبالانفراد فيهما بالخلق والأمر والحكم كمت هو وكما ورد في قوله تعالى: {له الحمد في الأولى والآخرة}. فالجاري مع هذا أن لو قيل: {الحمد لله رب العالمين} ملك يوم الدين والفصل بالرحمن الرحيم مما يكسر هذا الغرض فما وجه ذلك؟والجواب عن ذلك: أنه تعالى خصص هذه الأمة بخصائص الاعتناء والتكريم، قال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس}. وجعل نبينا صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم والمصطفى من كافة الخلق والتابع يشرف بشرف المتبوع وقد خاطبه تعالى بخطاب الرحمة والتلطف والاعتناء فقال تعالى: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} فقدم العفو بين يدي ما صورته العتب لئلا ينصدع قلبه صلى الله عليه وسلم فكذلك تلطف لعباده من أمة هذا النبي الكريم وأمنهم من خوفهم وإشفاقهم من عرض أعمالهم وحسابهم فقال: {الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ملك يوم الدين}. لما كان تعالى قد وصف هذا اليوم بأنه يوم {تشخص فيه الأبصار} {وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى} قدم هنا تعريفهم بأنه {الرحمن الرحيم} وأنه ملك ذلك اليوم فأنس هذه الأمة كما أنس نبيهم وذلك أبين شيء. اهـ..من لطائف القشيري في الآية: قال عليه الرحمة:{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)} اسمان مشتقان من الرحمة، والرحمة صفة أزلية وهي إرادة النعمة وهما اسمان موضوعان للمبالغة ولا فضل بينهما عند أهل التحقيق. وقيل الرحمن أشد مبالغة وأتم في الإفادة، وغير الحق سبحانه لا يسمى بالرحمن على الإطلاق، والرحيم ينعت به غيره، وبرحمته عرف العبد أنه الرحمن، ولولا رحمته لما عرف أحد أنه الرحمن، وإذا كانت الرحمة إرادة النعمة، أو نفس النعمة كما هي عند قوم فالنعم في أنفسها مختلفة، ومراتبها متفاوتة فنعمة هي نعمة الأشباح والظواهر، ونعمة هي نعمة الأرواح والسرائر.وعلى طريقة من فرَّق بينهما فالرحمن خاص الاسم عام المعنى، والرحيم عام الاسم خاص المعنى؛ فلأنه الرحمن رزق الجميع ما فيه راحة ظواهرهم، ولأنه الرحيم وفق المؤمنين لما به حياة سرائرهم، فالرحمن بما روَّح، والرحيم بما لوَّح؛ فالترويح بالمَبَارِّ، والتلويح بالأنوار: والرحمن بكشف تَجَلِّيه والرحيم بلطف تولِّيه، والرحمن بما أولى من الإيمان والرحيم بما أسدى من العرفان، والرحمن بما أعطى من العرفان والرحيم بما تولَّى من الغفران، بل الرحمن بما ينعم به من الغفران والرحيم بما يَمُنُّ به من الرضوان، بل الرحمن بما يكتم به والرحيم بما ينعم به من الرؤية والعيان، بل الرحمن بما يوفق، والرحيم بما تحقق، والتوفيق للمعاملات، والتحقيق للمواصلات، فالمعاملات للقاصدين، والمواصلات للواجدين، والرحمن بما يصنع لهم والرحيم بما يدفع عنهم؛ فالصنع بجميل الرعاية والدفع بحسن العناية. اهـ..قال السمرقندي: قوله عز وجل: {الرحمن الرحيم} قال في رواية الكلبي: هما اسمان رقيقان، أحدهما أرق من الآخر.وقال بعض أهل اللغة: هذا اللفظ شنيع، فلو قال: هما اسمان لطيفان، لكان أحسن ولكن معناه عندنا والله أعلم أنه أراد بالرقة الرحمة، يقال: رق فلان لفلان إذا رحمه.يقال: رق يرق إذا رحم.وقوله: أحدهما أرق من الآخر قال بعضهم: الرحمن أرق، لأنه أبلغ في الرحمة لأنه يقع على المؤمنين والكافرين وقال بعضهم: الرحيم أرق، لأنه في الدنيا وفي الآخرة.وقال بعضهم: كل واحد منهما أرق من الآخر من وجه، فلهذا المعنى لم يبين، وقال: أحدهما أرق من الآخر، يعني كل واحد منهما أرق من الآخر. اهـ..فائدة في تكرار {الرحمن الرحيم}: قال أبو حيان:وفي تكرار الرحمن الرحيم أن كانت التسمية آية من الفاتحة تنبيه على عظم قدر هاتين الصفتين وتأكيد أمرهما، وجعل مكي تكرارها دليلًا على أن التسمية ليست بآية من الفاتحة، قال: إذ لو كانت آية لكنا قد أتينا بآيتين متجاورتين بمعنى واحد، وهذا لا يوجد إلا بفواصل تفصل بين الأولى والثانية.قال: والفصل بينهما ب {الحمد لله رب العالمين} كلا فصل، قال: لأنه مؤخر يراد به التقديم تقديره الحمد لله، الرحمن الرحيم، رب العالمين، وإنما قلنا بالتقديم لأن مجاورة الرحمة بالحمد أولى، ومجاورة الملك بالملك أولى.قال: والتقديم والتأخير كثير في القرآن، وكلام مكي مدخول من غير وجه، ولولا جلالة قائلة نزهت كتابي هذا عن ذكره.والترتيب القرآني جاء في غاية الفصاحة لأنه تعالى وصف نفسه بصفة الربوبية وصفة الرحمة، ثم ذكر شيئين، أحدهما ملكه يوم الجزاء، والثاني العبادة.فناسب الربوبية للملك، والرحمة العبادة.فكان الأول للأول، والثاني للثاني.وقد ذكر المفسرون في علم التفسير الوقف، وقد اختلف في أقسامه، فقيل تام وكاف وقبيح وغير ذلك.وقد صنف الناس في ذلك كتبًا مرتبة على السور، ككتاب أبي عمر، والداني، وكتاب الكرماني وغيرهما، ومن كان عنده حظ في علم العربية استغنى عن ذلك. اهـ..فائدة في الفرق بين الرحمن والرحيم: قال الثعلبي:سمعت الحسن بن محمد يقول: سمعت إبراهيم بن محمد النسفي يقول: سمعت أبا عبد الله وهو ختن أبي بكر الوراق يقول: سمعت أبا بكر محمد بن عمر الورّاق يقول: الرَّحْمن: بالنعماء وهي ما أعطي وحبا، والرحيم بالآلاء وهي ما صرف وزوى.وقال محمد بن علي المزيدي: الرَّحْمن بالإنقاذ من النيران، وبيانه قوله تعالى: {وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا} والرحيم بإدخالهم الجنان، بيانه: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ءَامِنِينَ}.وقال المحاسبي: {الرَّحْمن} برحمة النفوس، و{الرحيم} برحمة القلوب.وقال السريّ بن مغلس: {الرَّحْمن} بكشف الكروب، و{الرحيم} بغفران الذنوب.وقال عبد الله بن الجرّاح: الرَّحْمن ب..... الطريق، والرحيم بالعصمة والتوفيق.وقال مطهر بن الوراق: الرَّحْمن بغفران السيّئات وإن كن عظيمات، والرحيم بقبول الطاعات وإن كنّ قليلات.وقال يحيى بن معاذ الرازي: الرَّحْمن بمصالح معاشهم، والرحيم بمصالح معادهم.وقال الحسين بن الفضل: الرَّحْمن الذي يرحم العبد على كشف الضر ودفع الشر، والرحيم الذي يرقّ وربما لا يقدر على الكشف.وقال أبو بكر الوراق أيضًا: الرَّحْمن بمن جحده والرحيم بمن وحّده، والرَّحْمن بمن كفر والرحيم بمن شكر، والرَّحْمن بمن قال ندًّا والرحيم بمن قال فردا. اهـ..من فوائد القونوي في الآية الكريمة: قال رحمه الله:قوله تعالى: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}:التفسير: لمّا تكلّمت على مفردات قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} وبيّنت ما يختصّ بكلّ كلمة منها من الأسرار الكلّيّة والأحكام الجمليّة اللازمة لها، احتجت [إلى] أن أتكلّم على هذه الآية مرّة أخرى بتنبيه وجيز جملي، لتفهم من حيث جملتها وتركيبها، كما علمت من حيث مفرداتها، وهكذا أفعل في باقي السورة- إن شاء اللّه- ثم أضيف إلى ما سبق ذكره من التنبيه الجملي المذكور الكلام على الاسمين: {الرّحمن} {الرّحيم} حسب ما يستدعيه هذا الموضع، وإن كان فيما سلف غنية ولكن لابد من التنبيه على حكمهما هنا مع تقدّم ذكرهما في البسملة، فنقول: اعلم، أنّه لمّا كان ظهور الحمد من الحامدين للمحمودين إنّما يكون في الغالب بعد الإنعام وفي مقابلة الإحسان، وأنهى من ذلك الحمد الصادر من العارفين المخلصين لا في معرض أمر مخصوص فإنّ نفس معرفتهم- المستفادة من الحقّ بأنّه سبحانه يستحقّ الحمد لذاته وما هو عليه من الكمال- من أجلّ النعم وأسناها، ولم يخل أحد من أن يكون على إحدى حالتين الراحة أو النكد، وصحّ عند المحقّقين أنّ الحقّ أعرف بمصالح عباده وأرعاها لهم منهم، لا جرم جمع سيّد العارفين والمحقّقين صلّى اللّه عليه وآله حكم الحمد في قوله في السرّاء: «الحمد للّه المنعم المفضل» وفي قوله في الضرّاء: «الحمد للّه على كلّ حال» تنبيها على أنّ الحال الذي لا يوافق أغراضنا وطباعنا لا يخلو عن مصلحة أو مصالح لا ندركها، يعود نفعها علينا، فتلك الأحوال وإن كرهناها فللّه فيها رحمة خفيّة، وحكمة عليّة يستحقّ منّا الحمد عليها، وذلك القدر من الكراهة هو حكم بعض أحوالنا عاد علينا مع التجاوز الإلهي عنّا في أمور كثيرة، كما أخبر بقوله تعالى: {ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ}.
|