الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال أبو حيان في الآيات السابقة: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40)}.{إلا عباد الله} استثناء منقطع.لما ذكر شيئًا من أحوال الكفار وعذابهم ذكر شيئًا من أحوال المؤمنين ونعيمهم.و{المخلصين} صفة مدح، لأن كونهم عباد الله، يلزم منه أن يكونوا مخلصين.ووصف {رزق} بمعلوم، أي عندهم.فقد قرت عيونهم بما يستدر عليهم من الرزق، وبأن شهواتهم تأتيهم بحسبها.وقال الزمخشري: معلوم بخصائص خلق عليها من طيب طعم ورائحة ولذة وحسن منظر.وقيل: معلوم الوقت كقوله: {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيًا} وعن قتادة: الرزق المعلوم: الجنة.وقوله: {في جنات النعيم} يأباه. انتهى.{فواكه} بدل من {رزق} وهي ما يتلذذ به ولا يتقوت لحفظ الصحة، يعني أن رزقهم كله فواكه لاستغنائهم عن حفظ الصحة بالأقوات لأنهم أجسام محكمة مخلوقة للأبد، فكل ما يأكلونه فهو على سبيل التلذذ.وقرأ ابن مقسم: {مكرمون} بفتح الكاف مشدد الراء.ذكر أولًا الرزق، وهو ما يتلذذ به الأجسام.وثانيًا الإكرام، وهو ما يتلذذ به النفوس، ورزق بإهانة تنكيد.ثم ذكر المحل الذي هم فيه، وهو جنات النعيم.ثم أشرف المحل، وهو السرر.ثم لذة التآنس بأن بعضهم يقابل بعضًا، وهو أتم السرور آنسة.ثم المشروب، وأنهم لا يتناولون ذلك بأنفسهم، بل يطاف عليهم بالكؤوس.ثم وصف ما يطاف عليهم به من الطيب وانتفاء المفاسد.ثم ذكر تمام اللذة الجسمانية، وختم بها كما بدأ باللذة الجسمانية من الرزق، وهي أبلغ الملاذ، وهي التآنس بالنساء.وقرأ الجمهور: {على سرر} بضم الراء؛ وأبو السمال: بفتحها، وهي لغة بعض تميم؛ وكلب يفتحون ما كان جمعًا على فعل من المضعف إذا كان اسمًا.واختلف النحويون في الصفة، فمنهم من قاسها على الاسم ففتح، فيقول ذلك بفتح اللام على تلك اللغة الثانية في الاسم.ومنهم من خص ذلك بالاسم، وهو مورد السماع في تلك اللغة.وقيل: التقابل لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض.وفي الحديث: «أنه في أحيان ترفع عنهم ستور فينظر بعضهم إلى بعض ولا محالة أن أكثر أحيانهم فيها قصورهم» و{يطاف} مبني للمفعول وحذف الفاعل، وهو المثبت في آية أخرى في قوله: {ويطوف عليهم ولدان مخلدون} {ويطوف عليهم غلمان لهم} ولعلهم من مات من أولاد المشركين قبل التكليف.ففي صحيح البخاري أنهم خدم أهل الجنة.والكاس: ما كان من الزجاجة فيه خمر أو نحوه من الأنبذة، ولا يسمى كأسًا إلا وفيه ذلك.وقد سمى الخمر نفسها كأسًا، تسمية للشيء باسم محله، قال الشاعر:وقال ابن عباس، والضحاك، والأخفش: كل كأس في القرآن فهو خمر.وقيل: الكأس هيئة مخصوصة في الأواني، وهو كل ما اتسع فمه ولم يكن له مقبض، ولا يراعى كونه لخمر أولًا.{من معين} أي من شراب معين، أو من ثمد معين، وهو الجاري على وجه الأرض كما يجري الماء.و{بيضاء} صفة للكأس أو للخمر.وقال الحسن: خمر الجنة أشد بياضًا من اللبن.وفي قراءة عبد الله: {صفراء} كما قال بعض المولدين: و{لذة} صفة بالمصدر على سبيل المبالغة، أو على حذف، أي ذات لذة، أو على تأنيث لذ بمعنى لذيذ.{لا فيها غول} قال ابن عباس، وقتادة: هو صداع في الرأس.وقال ابن عباس أيضًا، ومجاهد، وابن زيد: وجع في البطن. انتهى.والاسم يشمل أنواع الفساد الناشئة عن شرب الخمر، فينتفي جميعها من مغص، وصداع، وخمار، وعربدة، ولغو، وتأثيم، ونحو ذلك.ولما كان السكر أعظم مفاسدها، أفرده بالذكر فقال؛ {ولا هم ينزفون}.وقرأ الحرميان، والعربيان: بضم الياء وفتح الزاي هنا، وفي الواقعة: وبذهاب العقل، فسره ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وحمزة، والكسائي: بكسرها فيهما؛ وعاصم: بفتحها هنا وكسرها في الواقعة؛ وابن أبي إسحاق: بفتح الياء وكسر الزاي.وطلحة: بفتح الياء وضم الزاي.قال ابن عباس، ومجاهد، وابن زيد: {قاصرات الطرف} قصرن الطرف على أزواجهن، لا يمتد طرفهن إلى أجنبي بقوله تعالى: {عُرُبًا} وقال الشاعر: والعين: جمع عيناء، وهي الواسعة العين في جمال.{كأنهن بيض مكنون} شبههن، قال الجمهور: ببيض النعام المكنون في عشه، وهو الأدحية ولونها بياض به صفرة حسنة، وبها تشبه النساء فقال: ومنه قول امرىء القيس: وقال السدي، وابن جبير: شبه ألوانهن بلون قشر البيضة الداخل، وهو غرقىء البيضة، وهو المكنون في كن، ورجحه الطبري وقال: وأما خارج قشر البيضة فليس بمكنون.وعن ابن عباس، البيض المكنون: الجوهر المصون، واللفظ ينبو عن هذا القول.وقالت فرقة: هو تشبيه عام جملة المرأة بجملة البيضة، أراد بذلك تناسب أجزاء المرأة، وأن كل جزء منها نسبته في الجودة إلى نوعه نسبة الآخر من أجزائها إلى نوعه؛ فنسبة شعرها إلى عينها مستوية، إذ هما غاية في نوعها، والبيضة أشد الأشياء تناسب أجزاء، لأنها من حيث حسنها في النظر واحد، كما قال بعض الأدباء يتغزل: وتساؤلهم في الجنة سؤال راحة وتنعم، يتذاكرون نعيمهم وحال الدنيا والإيمان وثمرته.و{فأقبل} معطوف على {يطاف عليهم} والمعنى: يشربون فيتحدثون على الشراب، كعادة الشراب في الدنيا.قال الشاعر: وجيء به ماضيًا لصدق الإخبار به، فكأنه قد وقع.ثم حكى تعالى عن بعضهم ما حكى، يتذكر بذلك نعمه تعالى عليه، حيث هداه إلى الإيمان واعتقاد وقوع البعث والثواب والعقاب، وهو مثال للتحفظ من قرناء السوء والبعد منهم.قال ابن عباس وغيره: كان هذا القائل وقرينه من البشر.وقالت فرقة: هما اللذان في قوله: {ليتني لم أتخذ فلانًا خليلًا} وقال مجاهد: كان إنسيًا وجنيًا من الشياطين الكفرة.وقرأ الجمهور: {من المصدقين} بتخفيف الصاد، من التصديق؛ وفرقة: بشدها، من التصدق.قال قرة بن ثعلبة النهراني: كانا شريكين بثمانية آلاف درهم، يعبد الله أحدهما، ويقصر في التجارة والنظر؛ والآخر كان مقبلًا على ماله، فانفصل من شريكه لتقصيره، فكلما اشترى دارًا أو جارية أو بستانًا ونحوه، عرضه على المؤمن وفخر عليه، فيتصدق المؤمن بنحو من ذلك ليشتري به في الجنة، فكان من أمرهما في الآخرة ما قصد الله.وقال الزمخشري: نزلت في رجل تصدق بماله لوجه الله، فاحتاج، فاستجدى بعض إخوانه، فقال: وأين مالك؟ فقال: تصدقت به ليعوضني الله في الآخرة خيرًا منه، فقال: {أئنك لمن المصدقين} بيوم الدين، أو من المتصدقين لطلب الثواب؟ والله لا أعطيك شيئًا.{أئنا لمدينون} قال ابن عباس، وقتادة والسدي: لمجازون محاسبون؛ وقيل: لمسوسون مديونون.يقال: دانه: ساسه، ومنه الحديث: «العاقل من دان نفسه» والظاهر أن الضمير في {قال هل أنتم} عائد على قائل في قوله: {قال قائل}.قيل: وفي الكلام حذف تقديره: فقال لهذا القائل حاضروه من الملائكة: إن قرينك هذا في جهنم يعذب، فقال عند ذلك: {هل أنتم مطلعون}.والخطاب في {هل أنتم مطلعون} يجوز أن يكون للملائكة، وأن يكون لرفقائه في الجنة الذين كان هو وإياهم يتساؤلون، أو لخدمته، وهذا هو الظاهر.لما كان قرينه ينكر البعث، علم أنه في النار فقال: {هل أنتم مطلعون} إلى النار لأريكم ذلك القرين؟ وعلى هذا القول لا يحتاج الكلام إلى حذف، ولا لقول الملائكة: إن قرينك في جهنم يعذب.قيل: إن في الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى أهل النار.وقيل: القائل {هل أنتم مطلعون} الله تعالى.وقيل: بعض الملائكة يقول لأهل الجنة: بل تحبون أن تطلعوا فتعلموا أين منزلتكم من منزلة أهل النار.وقرأ الجمهور: {مطلعون} بتشديد الطاء المفتوحة وفتح النون، واطلع بشد الطاء فعلًا ماضيًا.وقرأ أبو عمرو في رواية حسين الجعفي: {مطلعون} بإسكان الطاء وفتح النون، فأطلع بضم الهمزة وسكون الطاء وكسر اللام فعلًا ماضيًا مبنيًا للمفعول، وهي قراءة ابن عباس وابن محيصن وعمار بن أبي عمار وأبي سراج.وقرئ: {فأطلع} مشددًا مضارعًا منصوبًا على جواب الاستفهام.وقرئ: {مطلعون} بالتخفيف، فاطلع مخففًا فعلًا ماضيًا، وفاطلع مخففًا مضارعًا منصوبًا.وقرأ أبو البرهسم، وعمار بن أبي عمار فيما ذكره خلف عن عمار: {مطلعون} بتخفيف الطاء وكسر النون، فاطلع ماضيًا مبنيًا للمفعول؛ ورد هذه القراءة أبو حاتم وغيره.لجمعها بين نون الجمع وياء المتكلم.والوجه مطلعي، كما قال، أو مخرجي هم، ووجهها أبو الفتح على تنزيل اسم الفاعل منزلة المضارع، وأنشد الطبري على هذا قول الشاعر: قال الفراء: يريد شراحيل.وقال الزمخشري: يريد مطلعون إياي، فوضع المتصل موضع المنفصل كقوله: أو شبه اسم الفاعل في ذلك بالمضارع لتآخ بينهما، كأنه قال: تطلعون، وهو ضعيف لا يقع إلا في الشعر. انتهى.والتخريج الثاني تخريخ أبي الفتح، وتخريجه الأول لا يجوز، لأنه ليس من مواضع الضمير المنفصل، فيكون المتصل وضع موضعه، لا يجوز هند زيد ضارب إياها، ولا زيد ضارب إياي، وكلام الزمخشري يدل على جوازه، فالأولى تخريج أبي الفتح، وقد جاء منه: وقول الآخر: وقال الآخر: فهذه أبيات ثبت التنوين فيها مع ياء المتكلم، فكذلك ثبتت نون الجمع معها إجراء للنون مجرى التنوين، لاجتماعهما في السقوط للإضافة.ويقال: طلع علينا فلان واطلع بمعنى واحد.ومن قرأ: {فاطلع} مبنيًا للمفعول، فضميره القائل الذي هو المفعول الذي لم يسم فاعله، وهو متعد بالهمزة، إذ يقول: طلع زيد وأطلعه غيره.وقال صاحب اللوامح: طلع واطلع، إذا بدا وظهر؛ واطلع اطلاعًا، إذا أقبل وجاء مبنيًا، ومعنى ذلك: هل أنتم مقبلون؟ فأقبل.وإن أقيم المصدر فيه مقام الفاعل بتقديره فاطلع الاطلاع، أو حرف الجر المحذوف، أي فاطلع به، لأنه اطلع لازم، كما أن أقبل كذلك. انتهى.وقد ذكرنا أن أطلع عدى بالهمزة من طلع اللازم، وأما قوله: أو حرف الجر المحذوف، أي فاطلع، به فهذا لا يجوز، لأن مفعول ما لم يسم فاعله لا يجوز حذفه، لأنه نائب عن الفاعل.فكما أن الفاعل لا يجوز حذفه دون عامله، فكذلك هذا.لو قلت: زيد ممدود أو مغضوب، تريد به أو عليه، لم يجز.و{سواء الجحيم} وسطها، تقول: تعبت حتى انقطع سوائي.قال ابن عباس: سمي سواء لاستواء المسافة منه إلى الجوانب، يعني سواء الجحيم.وقال خليل العصري: رآه: تبدلت حاله، فلولا ما عرفه الله به لم يعرفه، قال له عند ذلك: {تالله إن كدت لتردين} أي لتهلكني بإغوائك.وإن مخففة من الثقيلة، يلقي بها القسم؛ وتالله قسم فيه التعجب من سلامته منه إذا كان قرينه قارب أن يرديه.{ولولا نعم ربي} وهي توفيقه للإيمان والبعد من قرين السوء، {لكنت من المحضرين} للعذاب، كما أحضرته أنت.{أفما نحن بميتين} قرأ زيد بن عليّ: {بمائتين} ، والظاهر أنه من كلام القائل: يسمع قرينه على جهة التوبيخ له، أي لسنا أهل الجنة بميتين، لكن الموتة الأولى كانت لنا في الدنيا، بخلاف أهل النار، فإنهم في كل ساعة يتمنون فيها الموت.{وما نحن بمعذبين} كحال أهل النار، بل نحن منعمون دائمًا.ويكون في خطابه ذلك منكلًا له، مقرعًا محزنًا له أنعم الله به عليه من دخول الجنة، معلمًا له بتباين حاله في الآخرة بحاله.كما كانتا تتباينان في الدنيا من أنه ليس بعد الموت جزاء ظهر له خلافه، يعذب بكفره بالله وإنكار البعث.ويجوز أن يكون خطابًا من القائل لرفقائه، لما رأى ما نزل بقرينه، وقفهم على نعمه تعالى في ديمومة خلودهم في الجنة ونعيمهم فيها.ويتصل قوله: {إن هذا} إلى قوله: {العاملون} بهذا التأويل أيضًا، لا واضحًا خطابًا لرفقائه.ويجوز أن يكون تم كلامه عند قوله: {لتردين} ويكون {أفما نحن} إلى {بمعذبين} من كلامه وكلام رفقائه، وكذلك {إن هذا} إلى {العاملون} أي إن هذا الأمر الذي نحن فيه من النعيم والنجاة من النار.وقيل: هو من قول الله تعالى، تقريرًا لقولهم وتصديقًا له وخطابًا لرسول الله وأمّته، ويقوي هذا قوله: {لمثل هذا فليعمل العاملون} والآخرة ليست بدار عمل، ولا يناسب ذلك قول المؤمن في الآخرة إلا على تجوز، كأنه يقول: لمثل هذا ينبغي أن يعمل العاملون.وقال الزمخشري: الذي عطف عليه الفاء محذوف معناه: أنحن مخلدون؟ أي منعمون، فما نحن بميتين ولا معذبين. انتهى.وتقدم من مذهبه أنه إذا تقدمت همزة الاستفهام، وجاء بعدها حرف العطف بضمير ما، يصح به إقرار الهمزة والحرف في محليهما اللذين وقعا فيهما، ومذهب الجماعة أن حرف العطف هو المقدم في التقدير، والهمزة بعده، ولكنه لما كانت الهمزة لها صدر الكلام قدمت، فالتقدير عند الجماعة.فأما وقد رجع الزمخشري إلى مذهب الجماعة، وتقدم الكلام معه في ذلك. اهـ.
|