الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{فَمَا اختلفوا} في ذلك الأمرِ {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم} بحقيقتِه وحقِّيتهِ فجعلُوا ما يوجبُ زوالَ الخلافِ مُوجبًا لرسوخهِ {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} أي عداوةً وحسدًا لا شكًا فيه {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة} بالمُؤاخذةِ والجَزَاءِ {فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} من أَمْرِ الدِّينِ.{ثُمَّ جعلناك على شَرِيعَةٍ} أي سنةٍ وطريقةٍ عظيمةِ الشَّأْنِ {مِنَ الأمر} أي أمرِ الدينِ {فاتبعها} بإجراءِ أحكامِها في نفسِك وفي غيرِك من غيرِ إخلالِ بشيءٍ منَها {ولاَ تَتَّبِعْ أَهواء الذين لاَ يَعْلَمُونَ} أي اراءَ الجهلةِ واعتقاداتِهم الزائغةَ التابعةَ للشهواتِ وهم رؤساءُ قريشٍ كانُوا يقولونَ له عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ارجعْ إلى دينِ ابائِك {إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ الله شَيْئًا} مما أرادَ بكَ إن اتبعتَهُم {وَإِنَّ الظالمين بَعْضُهُمْ أوليَاء بَعْضٍ} لا يوُاليهم ولا يتبعُ أهواءَهُم إلا من كانَ ظالمًا مثلَهم {والله وليُّ المتقين} الذين أنتَ قدوتُهم فدُمْ على ما أنتَ عليهِ من تو ليه خَاصَّة والإعراضِ عمَّا سواهُ بالكُلِّيةِ.{هذا} أي القرآن أواتباعُ الشريعةِ {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} فإنَّ ما فيهِ من معالمِ الدينِ وشعائرِ الشرائعِ بمنزلةِ البصائرِ في القلوبِ {وهدى} منْ ورطةِ الضلالةِ {وَرَحْمَةً} عظيمةٌ {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} منْ شأنِهم الإيقانُ بالأمورِ.{أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات} استئنافٌ مَسوقٌ لبيانِ تباينِ حالَيْ المسيئينَ والمحسنين إثرَ تباينِ حالَيْ الظالمينَ والمتقينَ. وأَمْ منقطعةٌ وما فيها مِنْ مَعْنى بَلْ للأنتقال من البيانِ الأول إلى الثَّانِي. والهمزةُ لأنكارِ الحُسبانِ لكنْ لا بطريقِ إنكارِ الوقوعِ ونفيهِ كَما في قوله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الذين ءآمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين في الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار} بل بطريقِ إنكارِ الواقعِ واستقباحِه والتوبيخِ عليه. والاجتراحُ الاكتسابُ {أَن نَّجْعَلَهُمْ} أي نُصيَّرهُم في الحُكمِ والاعتبارِ وهُم على ما هُم عليهِ منْ مَسَاوِي الأحوالِ.{كالذين ءآمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات} وهُم فيمَا هُم فيهِ من محاسنِ الأعمالِ ونعاملُهُم معاملتهم في الكرامةِ ورفعِ الدرجةِ.وقوله تعالى: {سَوَاء محياهم ومماتهم} أيْ محيَا الفريقينِ جميعًا ومماتُهم. حالٌ من الضميرِ في الظرفِ والموصول معًا لاشتمالِه على ضميريِهما على أنَّ السواءَ بمَعْنى المُستوى. ومحياهُم ومماتُهم مرتفعانِ بهِ على الفاعليةِ. والمعَنْى أمْ حسبُوا أنْ نجعلَهم كائنينَ مثلَهمُ حالَ كونِ الكُلِّ مستويًا محياهُم ومماتُهم. كلاَّ لا يستو ونَ في شيءٍ منهُمَا فإنَّ هؤلاءِ في عزِّ الإيمانِ والطاعةِ وشرفِهما في المَحيا وفي رحمةِ الله تعالى ورضوانِه في المماتِ وأولئكَ في ذُلِّ الكُفرِ والمَعَاصِي وهو انِهما في المَحيا وفي لعنةِ الله والعذابِ الخالدِ في المماتِ شتانَ بينهما. وقد قيلَ: المراد إنكارُ أنْ يستووا في المماتِ كما استَو وا في الحياةِ لأن المسيئينَ والمحسنينَ مستومحياهُم في الرزقِ والصحةِ وإنما يفترقونَ في المماتِ. وَقرئ {محياهم ومماتَهم} بالنصبِ على أنَّهما ظرفانِ كمقْدَمِ الحاجِّ. وسواءً حالٌ على حالِه أي حالَ كونِهم مستوينَ في محياهُم ومماتِهم وقد ذُكرَ في الآية الكريمةِ وجوُهُ أُخرُ من الإعرابِ والذي يليقُ بجزالةِ التنزيلِ هو الأول فتدبرْ. وقرئ {سواءٌ} بالرفعِ على أنَّه خبرٌ و{محياهُم} مبتدأٌ فقيلَ الجملةُ بدل من الكافِ وقيل: حالٌ وأيَّا ما كانَ فنسبةُ حسبانِ التَّساوي إليهم في ضمنِ الأنكارِ التوبيخيِّ مع أنَّهم بمعزلٍ منه جازمونَ بفضلِهم على المؤمنينَ للبمالغةِ في الأنكارِ والتشديدِ في التوبيخِ فإنَّ إنكارَ حسبانِ التَّساوِي والتوبيخِ عليه إنكارٌ لحسبانِ الجزمِ بالفضلِ وتوبيخٌ عليهِ على أبلغِ وجهٍ واكدِه.{سَاء مَا يَحْكُمُونَ} أي ساءَ حكمُهم هَذا أوبئسَ شيئًا حكموا به ذلكَ.{وَخَلَقَ الله السموات والأرض بالحق} استئنافٌ مقررٌ لما سبقَ من الحكمِ فإنَّ خلقَ الله تعالى لَهُما ولما فيهما بالحقِّ المُقتضِي للعدلِ يستدعِي لا محالةَ تفصيلَ المُحْسنِ على المُسيءِ في المَحْيا والمَمَاتِ وانتصارَ المظلومِ من الظالمِ وإذَا لم يطّردْ ذلك في المَحيا فهو بعد المماتِ حَتْمًا {ولتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} عطفٌ عَلى بالحقِّ لأن فيهِ مَعْنى التعليلِ إذْ معناهُ خلَقَها مقرونةً بالحكمةِ والصوابِ دُونَ العبثِ والباطلِ فحاصلُه خلقَها لأجلِ ذلكَ ولتُجزَى الخ أو على علةٍ محذوفةٍ مثلُ ليدلَّ بَها على قدرتِه أوليعدل ولتُجزى {وَهُمْ} أي النفوسُ المدلو ل عليها بكلِّ نفسٍ {لاَ يُظْلَمُونَ} بنقصِ ثوابٍ أوبزيادةِ عقابٍ. وتسميةُ ذلكَ ظُلمًا معَ أنَّه ليسَ كذلكَ على ما عُرفَ من قاعدةِ أهلِ السنةِ لبيانِ غايةِ تنزهِ ساحةِ لُطفهِ تعالى عمَّا ذُكرَ تنزيلُه منزلةَ الظلمِ الذي يستحيلُ صدورُه عنْهُ تعالى.{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هواه} تعجيبٌ من حالِ مَنْ تركَ متابعةَ الهُدى إلى مُطأو عةِ الهوى فكأنَّه عبدُه أيْ أنظرتَ فرأيتَهُ فإنَّ ذلكَ مِمَّا يُقْضَى منه العجبُ. وقرئ {الهةً هواه} لأن أحدَهُم كانَ يستحسنُ حجرًا فيعبدُه فإذا رَأى أحسنَ منه رفضَهُ إليهِ فكأنَّه اتخذَ الهةً شتَّى {وَأَضَلَّهُ الله} وخذلَه {على عِلْمٍ} أي عالمًا بضلالِه وتبديلِه لفطرةِ الله تعالى التي فطرَ النَّاسَ عليها.{وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} بحيثُ لا يتأثرُ بالمواعظِ ولا يتفكرُ في الآيات والنذرِ.{وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غشاوة} مانعةً عن الاستبصارِ والاعتبارِ. وقرئ بفتحِ الغينِ وضمِّها. وقرئ {غشوةً} {فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله} أي من بعدِ إضلالِه تعالى إيَّاهُ بموجبِ تعاميهِ عنِ الهُدى وتماديهِ في الغيِّ {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أي أَلاَ تلاحظونَ فلا تذكَّرونَ وقرئ {تتذكرونَ} على الأصلِ.{وَقالواْ} بيانٌ لأحكامِ ضلالِهم المحكيِّ أي قالوا من غايةِ غيِّهم وضلالِهم {مَا هِيَ} أيْ ما الحَيَاةُ {إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا} التي نحنُ فيَها {نَمُوتُ وَنَحْيَا} أي يصيبنا الموتُ والحياةُ فيها وليس وراءَ ذلكَ حياةٌ وقيلَ: نكونُ نطفًا وما قبلَها وما بعدَها ونحيا بعدَ ذلكَ. أونموتُ بأنفسِنا ونحيَا ببقاءِ أولادِنا أو يموتُ بعضُنا ويحيا بعضُنا وقد جُوِّزَ أنْ يريدُوا به التناسخَ فإنَّه عقيدةُ أكثرِ عبدةِ الأوثانِ. وقرئ {نَحْيَا} {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدهر} إلا مرورُ الزمانِ وهو في الأصلِ مدةُ بقاءِ العالمِ من دَهَرهُ أي غلَبُه. وقرئ {إلا دهرٌ يمرُّ} وكانُوا يزعمونَ أن المؤثرَ في هلاكِ الأنفسِ هو مرورُ الأيامِ والليالِي وينكرونَ ملكَ الموتِ وقبضَه للأرواحِ بأمرِ الله تعالى ويضيفونَ الحوادثَ إلى الدهرِ والزمانِ. ومنْهُ قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبُّوا الدهرَ فإنَّ الله هو الدهرُ» أي فإنَّ الله هو الآتِي بالحوادثِ لا الدهرُ.{وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ} أي بما ذُكِرَ من اقتصارِ الحياةِ على ما في الدُّنيا واستنادِ الحياةِ والموتِ إلى الدهرِ {مِنْ عِلْمٍ} مَا مستندٍ إلى عقلٍ أونقلٍ {إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} ما هُم إلا قومٌ قُصارى أمرِهم الظنُّ والتقليدُ من غيرِ أنْ يكونَ لهم شيءٌ يصحُّ أنْ يتمسكَ به في الجملةِ. هذا معتقدُهم الفاسدُ في أنفسِهم {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا} النَّاطقةُ بالحقِّ الذي من جُمْلَته البعثُ {بينات} واضحاتِ الدلالةِ على ما نطقت بهِ أو مبيناتٍ له {مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ} بالنصبِ على أنَّه خبرُ كانَ أيْ مَا كانَ متمسكًا لهم شيءٌ من الأشيئاءِ.{إِلاَّ أَن قالواْ ائتوا بِآبائنا إِن كُنتُمْ صادقين} في أنَّا نبعثُ بعدَ الموتِ أيْ إلاَّ هذا القول الباطلُ الذي يستحيلُ أنْ يكونَ من قبيلِ الحُجَّةِ. وتسميتُه حجةً إمَّا لسوقِهم إيَّاهُ مساقَ الحُجَّةِ على سبيلِ التهكمِ بهم أولأنه من قبيلِ:
وقرئ برفعِ {حجَّتَهم} على أنها اسمُ كانَ فالمَعْنى ما كانَ حجَّتُهم شيئًا من الأشيئاءِ إلا هَذا القول الباطلَ.{قُلِ الله يُحْيِيكُمْ} ابتداءً {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عندَ انقضاءِ اجالِكم لا كما تزعمونَ من أنَّكم تحيَونَ وتموتونَ بحُكمِ الدهرِ.{ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ} بعدَ الموتِ {إلى يَوْمِ القيامة} للجزاءِ {لاَ رَيْبَ فِيهِ} أي في جمعِكم فإنَّ مَنْ قدرَ عَلَى البدءِ قدرَ على الإِعادةِ والحكمةُ اقتضتْ الجمعَ للجزاءِ لا محالةَ والوعدُ المصدقُ بالآيات دلَّ على وقَوعِها حتمًا. والإتيانُ بآبائهم حيثُ كانَ مُزاحمًا للحكمةِ التشريعيةِ امتنعَ إيقاعُه {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} استدراكُ من قوله تعالى: {لا رَيْبَ فيهِ} وهو إمَّا من تمامِ الكلامِ المأمورِ بهِ أوكلامٌ مسوقٌ من جهتِه تعالى تحقيقًا للحقِّ وتنبيهًا على أنَّ ارتيابَهُم لجهلِهم وقُصُورِهم في النظرِ والتفكرِ لا لأن فيه شائبةَ رَيْبٍ مَا. اهـ. .قال الشوكاني في الآيات السابقة: قوله: {ولقد ءآتَيْنَا بَنِى إسراءيل الكتاب والحكم والنبوة}.المراد بالكتاب: التوراة. وبالحكم: الفهم والفقه الذي يكون بهما الحكم بين الناس وفصل خصوماتهم. وبالنبوّة: من بعثه الله من الأنبياء فيهم {وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطيبات} أي: المستلذات التي أحلها الله لهم. ومن ذلك المنّ والسلوى {وفضلناهم عَلَى العالمين} من أهل زمانهم حيث آتيناهم ما لم نؤت من عداهم من فلق البحر ونحوه. وقد تقدّم بيان هذا في سورة الدخان {وءآتيناهم بينات مّنَ الأمر} أي: شرائع واضحات في الحلال والحرام. أو معجزات ظاهرات. وقيل: العلم بمبعث النبي. وشواهد نبوّته. وتعيين مهاجره: {فَمَا اختلفوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم} أي: فما وقع الاختلاف بينهم في ذلك الأمر إلاّ بعد مجيء العلم إليهم ببيانه. وإيضاح معناه. فجعلوا ما يوجب زوال الخلاف موجبًا لثبوته. وقيل: المراد بالعلم: يوشع بن نون. فإنه امن به بعضهم وكفر بعضهم. وقيل: نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم. فاختلفوا فيها حسدًا وبغيًا. وقيل: {بَغِيًّا} من بعضهم على بعض بطلب الرئاسة {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} من أمر الدين. فيجازي المحسن بإحسانه. والمسيء بإساءته.{ثُمَّ جعلناك على شَرِيعَةٍ مّنَ الأمر} الشريعة في اللغة: المذهب. والملة. والمنهاج. ويقال: لمشرعة الماء وهي مورد شاربيه: شريعة. ومنه الشارع؛ لأنه طريق إلى المقصد. فالمراد بالشريعة هنا: ما شرعه الله لعباده من الدين. والجمع شرائع. أي: جعلناك يا محمد على منهاج واضح من أمر الدين يوصلك إلى الحق {فاتبعها}: فاعمل بأحكامها في أمتك {ولاَ تَتَّبِعْ أَهواء الذين لاَ يَعْلَمُونَ} توحيد الله وشرائعه لعباده. وهم كفار قريش ومن وافقهم {إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ الله شَيْئًا} أي: لا يدفعون عنك شيئًا مما أراده الله بك إن اتبعت أهواءهم {وَإِنَّ الظالمين بَعْضُهُمْ أوليَاء بَعْضٍ} أي: أنصار ينصر بعضهم بعضًا.قال ابن زيد: إن المنافقين أولياء اليهود {والله وليُّ المتقين} أي: ناصرهم. والمراد بالمتقين: الذين اتقوا الشرك والمعاصي. والإشارة بقوله: {هذا} إلى القرآن. أو الى اتباع الشريعة. وهو مبتدأ وخبره {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} أي: براهين ودلائل لهم فيما يحتاجون إليه من أحكام الدين. جعل ذلك بمنزلة البصائر في القلوب. وقرئ: {هذه بصائر} أي: هذه الآيات؛ لأن القرآن بمعناها. كما قال الشاعر:لأن الصوت بمعنى الصيحة {وهدى} أي: رشد. وطريق يؤدي إلى الجنة لمن عمل به {وَرَحْمَةٌ} من الله في الآخرة {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي: من شأنهم الإيقان. وعدم الشك. والتزلزل بالشُّبه {أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات} أم هي المنقطعة المقدرة ببل. والهمزة وما فيها من معنى بل للأنتقال من البيان الأول إلى الثاني. والهمزة لأنكار الحسبان. والاجتراح: الاكتساب. ومنه الجوارح. وقد تقدّم في المائدة. والجملة مستأنفة؛ لبيان تباين حالي المسيئين والمحسنين. وهو معنى قوله: {أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات} أي: نسوّي بينهم مع اجتراحهم السيئات. وبين أهل الحسنات {سَوَاء محياهم ومماتهم} في دار الدنيا وفي الآخرة. كلا لا يستو ون. فإن حال أهل السعادة فيهما غير حال أهل الشقاوة.وقيل المراد: إنكار أن يستووا في الممات. كما استو وا في الحياة.قرأ الجمهور: {سواء} بالرفع على أنه خبر مقدّم. والمبتدأ {محياهم ومماتهم} والمعنى: إنكار حسبانهم أن محياهم ومماتهم. سواء.وقرأ حمزة. والكسائي. وحفص {سواء} بالنصب على أنه حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور في قوله: {كالذين ءآمنوا} أو على أنه مفعول ثان لحسب. واختار قراءة النصب أبو عبيد. وقال معناه: نجعلهم سواء. وقرأ الأعمش. وعيسى بن عمر {مماتهم} بالنصب على معنى: سواء في محياهم ومماتهم. فلما سقط الخافض انتصب. أو على البدل من مفعول نجعلهم بدل اشتمال {سَاء مَا يَحْكُمُونَ} أي: ساء حكمهم هذا الذي حكموا به.{وَخَلَقَ الله السموات والأرض بالحق} أي: بالحقّ المقتضي للعدل بين العباد. ومحل بالحقّ النصب على الحال من الفاعل. أو من المفعول. أو الباء للسببية. وقوله: {ولتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} يجوز أن يكون على الحقّ؛ لأن كلا منهما سبب. فعطف السبب على السبب. ويجوز أن يكون معطوفًا على محذوف. والتقدير: خلق الله السموات والأرض؛ ليدلّ بهما على قدرته ولتجزى. ويجوز أن تكون اللام للصيرورة {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} أي: النفوس المدلو ل عليها بكل نفس لا يظلمون بنقص ثواب. أوزيادة عقاب. ثم عجب سبحانه من حال الكفار. فقال: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هواه} قال الحسن. وقتادة: ذلك الكافر اتخذ دينه ما يهواه. فلا يهوى شيئًا إلاّ ركبه. وقال عكرمة: يعبد ما يهواه. أو يستحسنه. فإذا استحسن شيئًا. وهو اه اتخذه إلها.قال سعيد بن جبير: كان أحدهم يعبد الحجر. فإذا رأى ما هو أحسن منه رمى به وعبد الآخر {وَأَضَلَّهُ الله على عِلْمٍ} أي: على علم قد علمه. وقيل المعنى: أضله عن الثواب على علم منه بأنه لا يستحقه. وقال مقاتل: على علم منه أنه ضالّ؛ لأنه يعلم أن الصنم لا ينفع ولا يضرّ.قال الزجاج: على سوء في علمه أنه ضال قبل أن يخلقه. ومحل {على علم} النصب على الحال من الفاعل. أو المفعول {وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} أي: طبع على سمعه حتى لا يسمع الوعظ. وطبع على قلبه حتى لا يفقه الهدى {وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غشاوة} أي: غطاء حتى لا يبصر الرشد.قرأ الجمهور {غشاوة} بالألف مع كسر الغين. وقرأ حمزة. والكسائي {غشوة} بغير ألف مع فتح الغين. ومنه قول الشاعر: وقرأ ابن مسعود. والأعمش كقراءة الجمهور مع فتح الغين وهي لغة ربيعة. وقرأ الحسن. وعكرمة بضمها وهي لغة عكل {فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله} أي: من بعد إضلال الله له {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} تذكر اعتبار حتى تعلموا حقيقة الحال؟ ثم بيّن سبحانه بعض جهالاتهم وضلالاتهم فقال: {وَقالواْ مَا هي إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا} أي: ما الحياة إلاّ الحياة التي نحن فيها {نَمُوتُ وَنَحْيَا} أي: يصيبنا الموت والحياة فيها. وليس وراء ذلك حياة. وقيل: نموت نحن. ويحيا فيها أولادنا. وقيل: نكون نطفًا ميتة. ثم نصير أحياء.وقيل: في الآية تقديم وتأخير. أي: نحيا ونموت. وكذا قرأ ابن مسعود. وعلى كل تقدير. فمرادهم بهذه المقالة: إنكار البعث وتكذيب الآخرة {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدهر} أي: إلاّ مرور الأيام والليالي. قال مجاهد: يعني: السنين والأيام.وقال قتادة: إلاّ العمر. والمعنى واحد.وقال قطرب: المعنى: وما يهلكنا إلاَّ الموت.وقال عكرمة: وما يهلكنا إلاّ الله {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} أي: ما قالوا هذه المقالة إلاّ شاكين غير عالمين بالحقيقة. ثم بيّن كون ذلك صادرًا منهم لا عن علم. فقال: {إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} أي: ما هم إلاّ قوم غاية ما عندهم الظنّ. فما يتكلمون إلاّ به. ولا يستندون إلاّ إليه.{وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ} أي: إذا تليت آيات القرآن على المشركين حال كونها بينات واضحات ظاهرة المعنى. والدلالة على البعث {مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قالواْ ائتوا بِآبائنا إِن كُنتُمْ صادقين} أنا نبعث بعد الموت! أي: ما كان لهم حجة. ولا متمسك إلاّ هذا القول الباطل الذي ليس من الحجة في شيء. وإنما سماه حجة تهكمًا بهم.قرأ الجمهور بنصب {حجتهم} على أنه خبر كان. واسمها {إِلاَّ أَن قالواْ} وقرأ زيد بن عليّ. وعمرو بن عبيد. وعبيد بن عمروبرفع {حجتهم} على أنها اسم كان. ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يردّ عليهم. فقال: {قُلِ الله يُحْيِيكُمْ} أي: في الدنيا {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عند انقضاء اجالكم {ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إلى يَوْمِ القيامة} بالبعث والنشور {لاَ رَيْبَ فِيهِ} أي: في جمعكم؛ لأن من قدر على ابتداء الخلق قدر على إعادته {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} بذلك. فلهذا حصل معهم الشكّ في البعث. وجاءوا في دفعه بما هو أوهن من بيت العنكبوت. ولونظروا حقّ النظر لحصلوا على العلم اليقين. واندفع عنهم الرّيب وأراحوا أنفسهم من ورطة الشكّ والحيرة.
|