الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وجواب (إن) الشرطية محذوف أغنى عنه جواب (أمَّا).وكذلك قوله: {فسلام لك من أصحاب اليمين}.والسلام: اسم للسلامة من المكروه، ويطلق على التحية، واللام في قوله: {لك} للاختصاص.والكلام إجمال للتنويه بهم وعلوّ مرتبتهم وخلاصهم من المكدرات لتذهب نفس السامع كل مذهب.واختلف المفسرون في قوله: {فسلام لك من أصحاب اليمين} فقيل: كاف الخطاب موجهة لغير معين، أي لكل من يسمع هذا الخبر.والمعنى: أن السلامة الحاصلة لأصحاب اليمين تسر من يبلغه أمرها.وهذا كما يقال: ناهيك به، وحسبك به، و(من) ابتدائية، واللفظ جرى مجرى المثل فطوي منه بعضه، وأصله: فلهم السلامة سلامة تسرّ من بلغه حديثها.وقيل: الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم وتقرير المعنى كما تقدم لأن النبي صلى الله عليه وسلم يُسرّ بما يناله أهل الإسلام من الكرامة عند الله وهم ممن شملهم لفظ {أصحاب اليمين}.وقيل: الكلام على تقدير القول، أي فيقال له: سلام لك، أي تقول له الملائكة.و {من أصحاب اليمين} خبر مبتدأ محذوف، أي أنت من أصحاب اليمين، و{من} على هذا تبعيضية، فهي بشارة للمخاطب عند البعث على نحو قوله تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} [الرعد: 23، 24].وقيل: الكاف خطاب لمن كان من أصحاب اليمين على طريقة الالتفات.ومقتضى الظاهر أن يقال: فسلام له، فعدل إلى الخطاب لاستحضار تلك الحالة الشريفة، أي فيسلم عليه أصحاب اليمين على نحو قوله تعالى: {وتحيتهم فيها سلام} [يونس: 10] أي يبادرونه بالسلام، وهذا كناية عن كونه من أهل منزلتهم، و{من} على هذا ابتدائية.فهذه محامل لهذه الآية يستخلص من مجموعها معنى الرفعة والكرامة.والمكذبون الضالون: هم أصحاب الشمال في القسم السابق إلى أزواج ثلاثة.وقدم هنا وصف التكذيب على وصف الضلال عكس ما تقدم في قوله: {ثم إنكم أيها الضالون المكذبون} [الواقعة: 51]، لمراعاة سبب ما نالهم من العذاب وهو التكذيب، لأن الكلام هنا على عذاب قد حان حينه وفات وقت الحذر منه فبُينّ سبب عذابهم وذكروا بالذي أوقعهم في سببه ليحصل لهم ألم التندم.والنزل: ما يُقدم للضيف من القرى، وإطلاقه هنا تهكم، كما تقدم قريبًا في هذه السورة كقوله تعالى: {هذا نزلهم يوم الدين} [الواقعة: 56].والتصلية: مصدر صلاَّه المشدّد، إذا أحرقه وشواه، يقال: صلى اللحم تصلية، إذا شواه، وهو هنا من الكلام الموجه لإِيهامه أنه يُصلّى له الشواء في نزله على طريقة التهكم، أي يحرّق بها.والجحيم: يطلق على النار المؤججة، ويطلق عَلَمًا على جهنّم دار العذاب الآخرة.إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95).تذييل لجميع ما اشتملت عليه السورة من المعاني المثبتة.والإِشارة إلى ذلك بتأويل المذكور من تحقيق حق وإبطال باطل.والحق: الثابت.و {اليقين}: المعلوم جزمًا الذي لا يقبل التشكيك.وإضافة {حق} إلى {اليقين} من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي لهو اليقين الحق.وذلك أن الشيء إذا كان كاملًا في نوعه وصُف بأنه حقّ ذلك الجنس، كما في الحديث: «لأبعثن مَعكم أمينًا حقَّ أمين».فالمعنى: أن الذي قصصنا عليك في هذه السورة هو اليقين حقُّ اليقين، كما يقال: زيد العالم حقُ عالم.ومآل هذا الوصف إلى توكيد اليقين، فهو بمنزلة ذكر مرادف الشيء وإضافة المترادفين تفيد معنى التوكيد، فلذلك فسروه بمعنى: أن هذا يقينُ اليقين وصوابُ الصواب.نريد: أنه نهاية الصواب.قال ابن عطية: وهذا أحسن ما قيل فيه.ويجوز أن تكون الإِضافة بيانية على معنى (مِن)، وحقيقته على معنى اللام بتقدير: لهو حق الأمر اليقين، وسيجيء نظير هذا التركيب في سورة الحاقة.وسأبين هنالك ما يزيد على ما ذكرته هنا فانظره هنالك.وقد اشتمل هذا التذييل على أربعة مؤكدات وهي: (إن)، ولام الابتداء، وضمير الفصل، وإضافة شبه المترادفين.فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96).تفريع على تحقيق أن ما ذكر هو اليقين حقًا فإن ما ذكر يشتمل على عظيم صفات الله وبديع صنعه وحكمته وعدله، ويبشر النبي صلى الله عليه وسلم وأمته بمراتب من الشرف والسلامة على مقادير درجاتهم وبنعمة النجاة مما يصير إليه المشركون من سوء العاقبة، فلا جرم كان حقيقًا بأن يؤمر بتسبيح الله تسبيحًا استحقه لعظمته، والتسبيح ثناء، فهو يتضمن حمدًا لنعمته وما هدى إليه من طرق الخير، وقد مضى تفصيل القول في نظيره من هذه السورة. اهـ.
.قال ابن عطية في الآيات السابقة: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)}.اختلف الناس في: (لا)، من قوله: {فلا أقسم بمواقع النجوم} فقال بعض النحويين: هي زائدة والمعنى فأقسم، وزيادتها في بعض المواضع معروف كقوله تعالى: {لئلا يعلم أهل الكتاب} [الحديد: 29] وغير ذلك، وقال سعيد بن جبير وبعض النحويين: هي نافية، كأنه قال: {فلا} صحة لما يقوله الكفار، ثم ابتدأ {أقسم بمواقع النجوم}. وقال بعض المتأولين هي مؤكدة تعطي في القسم مبالغة ما، وهي كاستفتاح كلام مشبه في القسم ألا في شائع الكلام القسم وغيره، ومن هذا قول الشاعر: الطويل:والمعنى: فوأبي اعدائها، ولهذا نظائر.وقرأ الحسن والثقفي: {فلأقسم} بغير ألف، قال أبو الفتح، التقدير: فلأنا أقسم.وقرأ الجمهور من القراء {بمواقع} على الجمع، وقرأ عمر بن الخطاب وابن عباس وابن مسعود وأهل الكوفة وحمزة والكسائي: {بموقع} على الإفراد، وهو مراد به الجمع، ونظير هذا كثير، ومنه قوله تعالى: {إن أنكر الأصوات لصوت الحمير} [لقمان: 19] جمع من حيث لكل حمار صوت مختص وأفرد من حيث الأصوات كلها نوع.واختلف الناس في: {النجوم} هنا، فقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وغيرهم: هي نجوم القرآن التي نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه روي أن القرآن نزل من عند الله في ليلة القدر إلى السماء الدنيا، وقيل إلى البيت المعمور جملة واحدة، ثم نزل بعد ذلك على محمد نجومًا مقطعة في مدة من عشرين سنة.قال القاضي أبو محمد: ويؤيد هذا القول عود الضمير على القرآن في قوله: {إنه لقرآن كريم}، وذلك أن ذكره لم يتقدم إلا على هذا التأويل، ومن لا يتأول بهذا التأويل يقول: إن الضمير يعود على القرآن وإن لم يتقدم ذكر لشهرة الأمر ووضوح المعنى كقوله تعالى: {حتى توارت بالحجاب} [ص: 32]، و{كل من عليها فان} [الرحمن: 26] وغير ذلك. وقال جمهور كثير من المفسرين: {النجوم} هنا: الكواكب المعروفة. واختلف في موقعها، فقال مجاهد وأبو عبيدة هي: مواقعها عند غروبها وطلوعها، وقال قتادة: مواقعها مواضعها من السماء، وقيل: مواقعها عند الانقضاض إثر العفاريت، وقال الحسن: مواقعها عند الانكدار يوم القيامة.وقوله تعالى: {وإنه لقسم} تأكيد للأمر وتنبيه من المقسم به، وليس هذا باعتراض بين الكلامين، بل هذا معنى قصد التهمم به، وإنما الاعتراض قوله: {لو تعلمون} وقد قال قوم: إن قوله: {وإنه لقسم} اعتراض، وإن {لو تعلمون} اعتراض في اعتراض، والتحرير هو الذي ذكرن اهـ.وقوله: {إنه لقرآن} هو الذي وقع القسم عليه، ووصفه بالكرم على معنى إثبات صفات المدح له ودفع صفات الحطيطة عنه.واختلف المتأولون في قوله تعالى: {في كتاب مكنون} بعد اتفاقهم على أن المكنون: المصون، فقال ابن عباس ومجاهد: أراد الكتاب الذي في السماء.وقال عكرمة: أراد التوراة والإنجيل، كأنه قال: إنه لكتاب كريم، ذكر كرمه وشرفه {في كتاب مكنون}.قال القاضي أبو محمد: فمعنى الآية على هذا الاستشهاد بالكتب المنزلة، وهذا كقوله عز وجل: {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله} [التوبة: 36]. وقال بعض المتأولين: أراد مصاحف المسلمين، وكانت يوم نزلت الآية لم تكن، فهي على هذا إخبار بغيب، وكذلك هو في كتاب مصون إلى يوم القيامة، ويؤيد هذا لفظة المس، فإنها تشير إلى المصاحف أو هي استعارة في مس الملائكة.واختلف الناس في معنى قوله: {لا يمسه إلا المطهرون} وفي حكمه فقال من قال: إن الكتاب المكنون هو الذي في السماء. {المطهرون} هنا الملائكة قال قتادة: فأما عندكم فيمسه المشرك المنجس والمنافق قال الطبري: {المطهرون}: الملائكة والأنبياء ومن لا ذنب له، ولي في الآية على هذا القول حكم مس المصحف لسائر بني آدم، ومن قال بأنها مصاحف المسلمين، قال إن قوله: {لا يمسه} إخبار مضمنه النهي، وضمة السين على هذا ضمة إعراب، وقال بعض هذه الفرقة: بل الكلام نهي، وضمة السين ضمة بناء، قال جميعهم: فلا يمس المصحف من جميع بني آدم إلا الطاهر من الكفر والجنابة والحدث الأصغر. قال مالك: لا يحمله غير طاهر بعلاقته ولا على وسادة. وفي كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: «ولا يمس المصحف إلا الطاهر»، وقد رخص أبو حنيفة وقوم بأن يمسه الجنب والحائض على حائل غلاف ونحوه، ورخص بعض العلماء في مسه بالحدث الأصغر، وفي قراءته عن ظهر قلب، منهم ابن عباس وعامر الشعبي، ولاسيما للمعلم والصبيان، وقد رخص بعضهم للجنب في قراءته، وهذا الترخيص كله مبني على القول الذي ذكرناه من أن المطهرين هم الملائكة أو على مراعاة لفظ اللمس فقد قال سليمان: لا أمس المصحف ولكن أقرأ القرآن.وقرأ جمهور الناس: {المطَهّرون} بفتح الطاء والهاء المشددة. وقرأ نافع وابو عمرو بخلاف عنهما {المطْهَرون} بسكون الطاء وفتح الهاء خفيفة، وهي قراءة عيسى الثقفي. وقرأ سلمان الفارسي: {المطَهِّرون} بفتح الطاء خفيفة وكسر الهاء وشدها على معنى الذين يطهرون أنفسهم، ورويت عنه بشد الطاء والهاء. وقرأ الحسن وعبد الله بن عون وسلمان الفارسي بخلاف عنه: المطّهرون بشد الطاء بمعنى المتطهرون.قال القاضي أبو محمد: والقول بأن {لا يمسه} نهي قول فيه ضعف وذلك أنه إذا كان خبرًا فهو في موضع الصفة، وقوله بعد ذلك: {تنزيل}: صفة أيضًا، فإذا جعلناه نهيًا جاء معنى أجنبيًا معترضًا بين الصفات، وذلك لا يحسن في رصف الكلام فتدبره.وفي حرف ابن مسعود: {ما يمسه} وهذا يقوي ما رجحته من الخبر الذي معناه: حقه وقدره أن لا يمسه إلا طاهر.وقوله عز وجل: {أفبهذا الحديث أنتم مدهنون} مخاطبة للكفار، و{الحديث} المشار إليه هو القرآن المتضمن البعث، وإن الله تعالى خالق الكل وإن ابن آدم مصرف بقدره وقضائه وغير ذلك و: {مدهنون} معناه: يلاين بعضكم بعضًا ويتبعه في الكفر، مأخوذ من الدهن للينه وإملاسه. وقال أبو قيس بن الأسلت: الحزم والقوة خير من الإدهان والفهة والهاع وقال ابن عباس: هو المهاودة فيما لا يحل. والمداراة هي المهاودة فيما يحل، وقال ابن عباس: {مدهنون} مكذبون.
|