الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ولأنّه عند القرب يصير مضطرًا فيكون ذلك سببًا للقبول، ولكنه تعالى يفعل ما يشاء.وعد بقبول التوبة في بعض الأوقات، وبعدله أخبر عن عدم قبولها في وقت آخر، وله أن يجعل المقبول مردودًا، والمردود مقبولًا، {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} وقد رد على المعتزلة في دعواهم سقوط التكليف بالعلم بالله إذا صار ضرورة، وفي دعواهم أنّ مشاهدة أحوال الآخرة يوجب العلم بالله على سبيل الاضطرار.وقال الربيع: نزلت وليست التوبة في المسلمين، ثم نسخها: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لم يشاء} فحتم أن لا يغفر للكافرين، وأرجى المؤمنين إلى مشيئته.وطعن على ابن زيد: بأن الآية خبر، والأخبار لا تنسخ.وأجيب: بأنها تضمنت تقرير حكم شرعي، فيجوز نسخ ذلك الحكم، ولا يحتاج إلى ادعاء نسخ، لأن هذه الآية لم تتضمن أنَّ من لا توبة له مقبولة من المؤمنين لا يغفر له، فيحتاج أن ينسخ بقوله: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}.وظاهر قوله: {ولا الذين يموتون وهم كفار} أن هؤلاء مغايرون لقوله: {الذين يعملون السيئات}، لأنّ أصل المتعاطفين أن يكونا غيرين، وللتأكيد بلا المشعرة بانتفاء الحكم عن كل واحد تقول: هذا ليس لزيد وعمرو بل لأحدهما، وليس هذا لزيد ولا لعمرو، فينتفي عن كل واحد منهما، ولا يجوز أن تقول: بل لأحدهما، وليس هذا لزيد ولا لعمرو، فينتفي عن كل واحد منهما، ولا يجوز أن تقول: بل لأحدهما.وإذا تقرر هذا اتضح ضعف قول الزمخشري في قوله: (فإن قلت): من المراد بالذين يعملون السيئات، أهم الفساق من أهل القبلة، أم الكفار؟ (قلت): فيه وجهان: أحدهما: أن يراد به الكفار لظاهر قوله: {وهم كفار}، وأن يراد الفساق لأن الكلام إنما وقع في الزانيين، والإعراض عنهما إن تابا وأصلحا، ويكون قوله: {وهم كفار} واردًا على سبيل التغليظ كقوله: {ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} وقوله: فليمت إن شاء يهوديًا أو نصرانيًا، من ترك الصلاة متعمدًا فقد كفر، لأنّ من كان مصدقًا ومات وهو لا يحدث نفسه بالتوبة حاله قريبة من حال الكافر، لأنه لا يجتري على ذلك إلا قلب مصمت انتهى لامه.وهو في غاية الاضطراب، لأنه قبل ذلك حمل الآية على أنها دالة على قسمين: أحدهما: الذين سوفوا التوبة إلى حضور الموت، والثاني: الذين ماتوا على الكفر.وفي هذا الجواب حمل الآية على أنها أريد بها أحد القسمين.أما الكفار فقط وهم الذين وصفوا عنده بأنهم يعملون السيئات ويموتون على الكفر، وعلل هذا الوجه بقوله: لظاهر قوله: {وهم كفار}، فجعل هذه الحالة دالة على أنه أريد بالذين يعملون السيئات هم الكفار، وأما الفساق من المؤمنين فيكون قوله: {وهم كفار} لا يراد به الكفر حقيقة، ولا أنهم يوافون على الكفر حقيقة، وإنما جاء ذلك على سبيل التغليظ عنده: فقد خالف تفسيره في هذا الجواب صدر تفسيره الآية، أولًا وكل ذلك انتصار لمذهبه حتى يرتب العذاب: إما للكافر، وإما للفاسق، فخرج بذلك عن قوانين النحو، والحمل على الظاهر.لأن قوله: {وهم كفار}، ليس ظاهره إلا أنه قيد في قوله: {ولا الذين يموتون}، وظاهره الموافاة على الكفر حقيقة.وكما أنه شرط في انتفاء قبول توبة الذين يعملون السيئات إيقاعها في حال حضور الموت، كذلك شرط في ذلك كفرهم حالة الموت، وظاهر العطف التغاير والزمخشري كما قيل في المثل: حبك الشيء يعمي ويصم.وجاء يعملون بصيغة المضارع لا بصيغة الماضي إشعارًا بأنهم مصرون على عمل السيئات إلى أن يحضرهم الموت.وظاهر قوله: {قال إني تبت الآن}، وهو توبتهم عند معاينة الموت فلم تقبل تفسيره، فلا تقبل توبتهم لأنها توبة دفع.وقيل: قوله: {تبت الآن} توبة شريطية فلم تقبل، لأنه لم يقطع بها.وقوله: {وليست التوبة} ظاهرة النفي لوجودها، والمعنى على نفي القبول أي: أن توبتهم وإن وجدت فليست بمقبولة.وظاهر قوله: {ولا الذين يموتون وهم كفار}، وقوع الموت حقيقة.فالمعنى: أنهم لو تابوا في الآخرة لم تقبل توبتهم، لأنه لا يمكن ذلك في الدنيا، لأنهم ماتوا ملتبسين بالكفر.قيل: ويحتمل أن يراد بقوله: {يموتون}، يقربون من الموت كما في قوله: {حضر أحدهم الموت} أي علاماته.فكما أنّ التوبة عن المعصية لا تقبل عند القرب من الموت، كذلك الإيمان لا يقبل عند القرب من الموت. اهـ.
.قال الفخر: إنه تعالى عطف على الذين يتوبون عند مشاهدة الموت، الكفار، والمعطوف مغاير للمعطوف عليه، فهذا يقتضي أن الفاسق من أهل الصلاة ليس بكافر، ويبطل به قول الخوارج: إن الفاسق كافر، ولا يمكن أن يقال: المراد منه المنافق لأن الصحيح أن المنافق كافر، قال تعالى: {والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لكاذبون} [المنافقون: 1] والله أعلم. اهـ.قال الفخر:أعتدنا: أي أعددنا وهيأنا، ونظيره قوله تعالى في صفة نار جهنم: {أُعِدَّتْ للكافرين} [البقرة: 24] احتج أصحابنا بهذه الآية على أن النار مخلوقة لأن العذاب الأليم ليس إلا نار جهنم وبرده، وقوله: {أَعْتَدْنَا} إخبار عن الماضي، فهذا يدل على كون النار مخلوقة من هذا الوجه، والله أعلم. اهـ..قال الطبري: واختلف أهل العربية في معنى: أعتدنا لهم.فقال بعض البصريين: معنى أعتدنا، أفعلنا من العَتَاد. قال: ومعناها: أعددنا.وقال بعض الكوفيين: أعددنا وأعتدنا، معناهما واحد.فمعنى قوله: {أعتدنا لهم}، أعددنا لهم {عذابًا أليما}، يقول: مؤلمًا موجعًا. اهـ..قال أبو حيان: {أولئك أعتدنا لهم عذابًا أليمًا} يحتمل أن تكون الإشارة إلى الصنفين، ويكونان قد شركا في إعداد العذاب لهما، وإن كان عذاب أحدهما منقطعًا والآخر خالدًا.ويكون ذلك وعيدًا للعاصي الذي لم يتب إلا عند معاينة الموت حيث شرّك بينه وبين الذي وافى على الكفر، ويحتمل أن يكون أولئك إشارة إلى الصنف الأخير إذ هو أقرب مذكور.واسم الإشارة يجري مجرى الضمير، فيشار به إلى أقرب مذكور، كما يعود الضمير على أقرب مذكور، ويكون إعداد العذاب مرتبًا على الموافاة على الكفر، إذ الكفر هو مقطع الرجاء من عفو الله تعالى.وظاهر الإعداد أنّ النار مخلوقة وسبق الكلام على ذلك.وقال الزمخشري: أولئك أعتدنا لهم في الوعيد، نظير قوله: {أولئك يتوب الله عليهم} في الوعد ليتبين أن الأمرين كائنان لا محالة انتهى.وتلطف الزمخشري في دسه الاعتزال هنا، وذلك أنه كان قد قرر أول كلامه بأنّ من نفى عنهم التوبة صنفان، ثم ذكر هذا عقيبه، وفهم منه أن الوعيد في حق هذين الصنفين، كائن لا محالة، كما أن الوعد للذين تقبل توبتهم من الصنف المذكور، قبل هذه الآية واقع لا محالة، فدل على أنّ العصاة الذين لا توبة لهم وعيدهم كائن مع وعيد الكفار، وهذا هو مذهب المعتزلة.ومع احتمال أن يكون أولئك إشارة إلى الذين يوافون على الكفر، ويرجح ذلك بأن فعل الكافر أقبح من فعل الفاسق، لا يتعين أن يكون الوعيد مقطوعًا به للفاسق.وعلى تقدير أن يكون الوعيد للفاسق الذي لا توبة له، فلا يلزم وقوع ما دل عليه، إذ يجوز العقاب ويجوز العفو.وفائدة وروده حصول التخويف للفاسق.وكل وعيد للفساق الذين ماتوا على الإسلام فهو مقيد بقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وهذه هي الآية المحكمة التي يرجع إليها.وذهب أبو العالية الرياحي وسفيان الثوري: إلى أن قوله: {للذين يعملون السيئات} في حق المنافقين، واختاره المروزي.قال: فرق بالعطف، ودل على أنَّ المراد بالأول المنافقون.كما فرق بينهم في قوله: {فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا} لأن المنافق كان مخالفًا للكافر بظاهره في الدنيا.والذي يظهر أنها في عصاة المؤمنين الذين يتوبون حال اليأس من الحياة، لأن المنافقين مندرجون في قوله: {ولا الذين يموتون وهم كفار} فهم قسم من الكفار لا قسيم لهم.وقيل: إنما التوبة على الله في الصغائر، وليست التوبة للذين يعملون السيئات في الكبائر، ولا الذين يموتون وهم كفار في الكفر. اهـ..قال النيسابوري في الآيات السابقة: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)}.قوله عم طوله: {واللاتي يأتين الفاحشة} الآية. وجه النظم فيه أن التغيلظ عليهم في باب الفاحشة من جملة الإحسان إليهن المأمور به في الآيات المتقدمة. وفيه أم مدار الشرع على العدل والإنصاف والاحتراز في كل باب من طرفي التفريط والإفراط،، فلا ينبغي أن يصير الإحسان إليهن سببًا لترك إقامة الحدود عليهن. واللاتي جمع التي وفيه لغات: اللائي بالهمزة، واللواتي واللواتي فكأنهما جمعا الجمع. وقد تحذف الياآت من الأربعة، وقد تسهل همزة اللائي بين الهمزة والياء لكونها مكسورة لقراءة ورش {واللاء يئسن من المحيض} [الطلاق: 4] وقد يقال: اللاي بياء ساكنة بعد الألف من غير همز، وقد يقال: اللوا بحذف التاء والياء معًا. وقد يقال: اللاآت كاللامات. قال ابن الأنباري: العرب تقول في الجمع من غير الحيوان التي، ومن الحيوان اللاتي كقوله: {أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا} [النساء: 5] وقال في هذه الآية {واللاتي} لأن الجمع من غير الحيوان سبيله سبيل الشيء الواحد بخلاف جمع الحيوان فإن كل واحد منهما متميز عن غيره بخواص وصفات. ومن العرب من يلغي هذا الفرق. والفاحشة الفعلة المتزايدة في القبح مصدر كالعافية. وأجمعوا على أنها الزنا ههنا. قال المحققون: خصص هذا العمل بالفاحشة لأن القوى البدنية نطقية وغضبية وشهوية، وفساد الأولى الكفر والبدعة وأمثالها، وفساد الثانية القتل بغير حق ونحوه، وفساد الثالثة الزنا واللواط والسحق وما أشبهها وهذه أخص الجميع. ومعنى {من نسائكم} من زوجاتكم أو من الحرائر أو من نسائكم المؤمنات والثيبات أقوال. {فاستشهدوا عليهم أربعة منكم} احتياطاَ لأمر الزنا. والمراد بقوله: {منكم} أي من رجالكم. قال الزهري: مضت السنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين بعده أن لا تقبل شهادة النساء في الحدود فإن شهدوا مفصلًا مفسرًا كقولهم: رأيناه أدخل فرجه في فرجها كالمرود في المكحلة، أو كالرشاء في البئر. ولابد مع ذلك من الوصف بالتحريم لا بمعنى عرضي كالحيض، ولا مع تحليل عالم كالمتعة، ولا بشبهة {فأمسكوهن في البيوت} خلدوهن محبوسات في بيوتكم {حتى يتوفاهن الموت} أي ملائكة الموت أو حتى يأخذهن الموت ويستوفي أرواحهن {أو يجعل الله لهن سبيلًا} بالنكاح أو بالحد. {واللذان يأتيانها منكم} يعني الزاني والزانية أو اللائط والملوط {فآذوهما} فوبخوهما وقولوا لهما أما استحييتما أما خفتما الله أما لكما في النكاح مندوحة عن هذه؟ {فإن تابا وأصلحا} وغيرا الحال {فأعرضوا عنهما} فاقطعوا التوبيخ والذم، أو خوطب الشهود الذين عثروا على سرهما أن يهددوهما بالرفع إلى الإمام والحد فإن تابا قبل الرفع إلى الإمام فأعرضوا عن العرض على الإمام.
|