الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
أَقُولُ: ظَاهِرُ الرِّوَايَاتِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَالَ إِلَى تَصْدِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِدَانَةِ الْيَهُودِيِّ لِمَا كَانَ يَغْلُبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ مِنَ الصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ، وَعَلَى الْيَهُودِ مِنَ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ إِنَّ أُولَئِكَ الْمُسْلِمِينَ، لَمْ يَكُونُوا إِلَّا مُنَافِقِينَ؛ لِأَنَّ مِثْلَ عَمَلِ طُعْمَةَ وَتَأْيِيدِ مَنْ أَيَّدَهُ فِيهِ لَا يَصْدُرُ عَمْدًا إِلَّا مِنْ مُنَافِقٍ، وَتَبِعَ ذَلِكَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَدَّ لَوْ يَكُونُ الْفَلْجُ بِالْحَقِّ فِي الْخُصُومَةِ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُرَجَّحُ صِدْقُهُمْ، فَأَرَادَ أَنْ يُسَاعِدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَفْعَلِ انْتِظَارًا لِوَحْيِ اللهِ تَعَالَى، فَعَلَّمَهُ اللهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَاتِ وَعَلَّمَنَا أَنَّ الِاعْتِقَادَ الشَّخْصِيَّ، وَالْمَيْلَ الْفِطْرِيَّ وَالدِّينِيَّ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يَظْهَرَ لَهُمَا أَثَرٌ مَا فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَلَا أَنْ يُسَاعِدَ الْقَاضِي مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ هُوَ صَاحِبُ الْحَقِّ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُسَاوِي بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ الْوَاجِبُ، وَكَانَ ذَلِكَ الْمَيْلُ إِلَى تَأْيِيدِ مَنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ يُفْضِي إِلَى مُسَاعَدَتِهِ فِي الْخُصُومَةِ فَيَكُونُ الْحَاكِمُ خَصِيمًا عَنْهُ لَوْ فَعَلَ، وَإِذَا كَانَ طَلَبُ الِانْتِصَارِ لَهُمْ مِنَ الْخَائِنِينَ فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسُ الْأَمْرِ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، فَقَدْ وَجَبَ الِاسْتِغْفَارُ مِنْ هَذَا الِاجْتِهَادِ وَحُسْنِ الظَّنِّ فَهَذَا أَحْسَنُ مَا يُوَجَّهُ بِهِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الرَّازِيُّ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَاتِ، وَمَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَبْلَغُ فِي تَنْزِيهِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِمَّا يَلِيقُ بِهِ، أَمَّا الْعِصْمَةُ فَلَا يَنْقُضُهَا شَيْءٌ مِمَّا وَرَدَ وَلَا الْأَمْرُ بِالِاسْتِغْفَارِ؛ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ مِنَ الْحُكْمِ أَوِ الْعَمَلِ بِغَيْرِ مَا أَوْحَاهُ اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِمْ أَوْ مَا يَرَوْنَ بِاجْتِهَادِهِمْ أَنَّهُ الصَّوَابُ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَحْكُمْ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَاتِ بِشَيْءٍ، وَلَمْ يَعْمَلْ بِغَيْرِ مَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ تَأْيِيدٌ لِلْحَقِّ، وَلَكِنَّهُ أَحْسَنَ الظَّنَّ فِي أَمْرٍ بَيَّنَ لَهُ عَلَّامُ الْغُيُوبِ حَقِيقَةَ الْوَاقِعِ فِيهِ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ فِي مُعَامَلَةِ ذَوِيهِ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا، أَيْ: كَانَ شَأْنُهُ ذَلِكَ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ مِثْلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِرَارًا.{وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} أَيْ: يَخُونُونَهَا، بَلْ يَتَعَلَّمُونَ وَيَتَكَلَّفُونَ مَا يُخَالِفُ الْفِطْرَةَ مِنَ الْخِيَانَةِ الَّتِي تَعُودُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالضَّرَرِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْخَائِنِينَ يُوجَدُونَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَهَذَا النَّهْيُ لَمْ يَكُنْ مُوَجَّهًا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً، وَإِنَّمَا هُوَ تَشْرِيعٌ وُجِّهَ إِلَى الْمُكَلَّفِينَ كَافَّةً؛ وَفِي جَعْلِهِ بِصِيغَةِ الْخِطَابِ لَهُ- وَهُوَ أَعْدَلُ النَّاسِ وَأَكْمَلُهُمْ- مُبَالَغَةٌ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ هَذِهِ الْخَلَّةِ الْمَعْهُودَةِ مِنَ الْحُكَّامِ {إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} أَيْ: مَنِ اعْتَادَ الْخِيَانَةَ وَأَلِفَ الْإِثْمَ فَلَمْ يَعُدْ يَنْفِرُ مِنْهُ، وَلَا يَخَافُ الْعِقَابَ الْإِلَهِيَّ عَلَيْهِ، فَيُرَاقِبُهُ فِيهِ، وَإِنَّمَا يُحِبُّ اللهُ أَهْلَ الْأَمَانَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ.{يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ} أَيْ: إِنَّ شَأْنَ هَؤُلَاءِ الْخَوَّانِينَ الرَّاسِخِينَ فِي الْإِثْمِ أَنَّهُمْ يَسْتَتِرُونَ مِنَ النَّاسِ عِنْدَ ارْتِكَابِ خِيَانَتِهِمْ وَاجْتِرَاحِهِمُ الْإِثْمَ؛ لِأَنَّهُمْ يَخَافُونَ ضُرَّهُمْ، وَلَا يَسْتَتِرُونَ مِنَ اللهِ تَعَالَى بِتَرْكِهِ لِأَنَّهُمْ لَا إِيمَانَ لَهُمْ، إِذِ الْإِيمَانُ يَمْنَعُ مِنَ الْإِصْرَارِ وَالتَّكْرَارِ، وَلَا تَقَعُ الْخِيَانَةُ مِنْ صَاحِبِهِ إِلَّا عَنْ غَفْلَةٍ أَوْ جَهَالَةٍ عَارِضَةٍ لَا تَدُومُ وَلَا تَتَكَرَّرُ حَتَّى تُحِيطَ بِصَاحِبِهَا خَطِيئَتُهُ، عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاسْتِخْفَاءُ مِنْهُ تَعَالَى فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ تَعَالَى يَرَاهُ وَرَاءَ الْأَسْتَارِ فِي حَنَادِسِ الظُّلُمَاتِ وَهُوَ الْمُؤْمِنُ الصَّادِقُ، فَلابد أَنْ يَتْرُكَ الذَّنْبَ وَالْخِيَانَةَ حَيَاءً مِنْهُ تَعَالَى أَوْ خَوْفًا مِنْ عِقَابِهِ، {وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ}، أَيْ: وَهُوَ تَعَالَى شَاهِدُهُمْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُدَبِّرُونَ فِيهِ مِنَ اللَّيْلِ، مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ، لِأَجْلِ تَبْرِئَةِ أَنْفُسِهِمْ وَرَمْيِ غَيْرِهِمْ بِخِيَانَتِهِمْ وَجَرِيمَتِهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ مِنْهُ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى نَجَاتِهِمْ مِنْ عِقَابِهِ.{هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ أَرَادُوا مُسَاعَدَةَ بَنِي أُبَيْرِقٍ عَلَى الْيَهُودِيِّ جَمَاعَةٌ، وَأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْجِدَالِ عَنْهُمْ مُوَجَّهٌ إِلَى هَؤُلَاءِ وَحْدَهُمْ وَإِنْ بُدِئَ بِخِطَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحْدَهُ، أَيْ: هَا أَنْتُمْ يَا هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ وَحَاوَلْتُمْ تَبْرِئَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا {فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} يَوْمَ يَكُونُ الْخَصْمُ وَالْحَاكِمُ هُوَ اللهُ الْمُحِيطُ عِلْمُهُ بِأَعْمَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَأَحْوَالِ الْخَلْقِ كَافَّةً؟ أَيْ: لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجَادِلَ هُنَالِكَ أَحَدٌ عَنْهُمْ، وَلَا أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ لَهُمْ، فَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُرَاقِبُوا اللهَ تَعَالَى فِي مِثْلِ ذَلِكَ، وَلَا يَحْسَبُوا أَنَّ مَنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَنَالَ الْفَلْجَ بِالْحُكْمِ لَهُ مِنْ قُضَاةِ الدُّنْيَا بِغَيْرِ حَقٍّ، يُمْكِنُهُ كَذَلِكَ أَنْ يَظْفَرَ فِي الْآخِرَةِ، {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [82: 19]، الَّذِي يُحَاسِبُ عَلَى الذَّرَّةِ {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [21: 47]، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ فِي الدُّنْيَا لَا يُجِيزُ لِلْمَحْكُومِ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ حُكْمٌ لَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ. اهـ.
.فوائد لغوية وإعرابية: قال ابن عادل:{هَا} للتَّنْبِيه في {أنْتُم}، و{هؤلاءِ}: مُبْتَدأ وخَبَر {جَادَلْتُم} جُمْلَة مبينة لِوُقُوع «أولاء» خبرًا؛ كما تَقُول لِبْعضِ الأسْخِيَاءِ: أنْتَ حَاتِمٌ تجود بِمَالِك، وتُؤثِر على نَفْسك، ويجُوز أن يكون «أولاء» اسمًا مَوْصُولًا، بمعنى: الَّذِين، و{جادلْتُم} صلة وتقدَّم الكَلاَم على نَحْو {هَا أنْتُم هؤلاءِ}، والجِدَال في اللُّغَة عبارة عَنْ شِدَّة المخَاصَمَةِ من الجَدَل وهو شدة الفتل، وجَدْل الحَبْل: شدَّة فتله، ورَجُل مَجْدُول كأنه فُتل، والأجْدَل: الصَّقر؛ لأنَّه من أشَدِّ الطُّيُور قُوَّة؛ هذا قَوْل الزَّجَّاج، والمَعْنَى: أن كل وَاحِدٍ من الخَصْمَيْن يريد فَتْل خَصْمه عن مَذْهَبه، وصَرْفَه عن رَأيه بِطَريق الحجاج، وقيل: الجِدَال من الجِدَالةِ، وهذا خِطَاب مع قَوْم من المُؤمنين، كانوا يذبُّون عن طعمة وَعن قوْمِهِ: بسبب أنهم كَانُوا في الظَّاهِرِ مسلِمين، والمعنى: هَبُوا أنَّكم خَاصَمتُم عن طعمة وقَوْمِهِ في الدُّنْيَا، فمن يُخَاصِم عَنْهم في الآخِرة إذَا أخَذَهم اللَّه بِعَذَابِه.وقرأ أبيُّ بن كَعْب، وعَبْد الله بن مَسْعُود: {وجَادَلْتُم عَنْه} يعني: طعمة.وقوله: {فَمَن يُجَادِلُ الله عَنْهُمْ يَوْمَ القيامة}: استفهام تَوْبيخٍ وتَقْريعٍ، و«من» استِفْهَامِيَّة في محلِّ رفع بالابتداء، و{يُجَادِلُ}: خبره، وقوله: {أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} أم: مُنقَطِعَة وليست بعاطِفَةِ، وظاهر عِبَارَة مَكِّي: أنها عاطفة، فإنَّه قال: و{أمَّنْ يكُونُ} مثلها عطف عليها، أي: مثل {مَنْ} في قوله: {فَمَنْ يُجَادِلُ} وهو في محَلِّ نظرٍ؛ لأن في المنقطعة خِلافًا، هل تُسمَّى عاطِفَة أم لا، والوكيل الكفيل الذي وُكِّلَ إليه الأمْرُ في الحفظ والحماية و«على» هنا بمعنى اللام اهـ..تفسير الآية رقم (110): قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)}.مناسبة الآية لما قبلها: قال البقاعي:ولما نهى عن نصرة الخائن وحذر منها، ندب إلى التوبة من كل سوء فقال- عاطفًا على ما تقديره: فمن يصر على مثل هذه المجادلة يجد الله عليمًا حكيمًا-: {من يعمل سوءًا} أي قبيحًا متعديًا يسوء غيره شرعًا، عمدًا- كما فعل طعمة- أو غير عمد {أو يظلم نفسه} بما لا يتعداه إلى غيره شركًا كان أو غيره، أو بالرضى لها بما غيره أعلى منه، ولم يسمه بالسوء لأنه لا يقصد نفسه بما يضرها في الحاضر {ثم يستغفر الله} أي يطلب من الملك الأعظم غفرانه بالتوبة بشروطها {يجد الله} أي الجامع لكل كمال {غفورًا} أي ممحيًّا للزلات {رحيمًا} أي مبالغًا في إكرام من يقبل إليه «من تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا، ومن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة» روى إسحاق بن راهويه عن عمر رضي الله تعالى عنه وأبو يعلى الموصلي عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه أن هذه الآية نسخت {من يعمل سوءًا يجز به} [النساء: 123] وأنها نزلت بعدها. اهـ..من أقوال المفسرين: .قال الفخر: والمراد بالسوء القبيح الذي يسوء به غيره كما فعل طعمة من سرقة الدرع ومن رمي اليهودي بالسرقة والمراد بظلم النفس ما يختص به الإنسان كالحلف الكاذب، وإنما خص ما يتعدى إلى الغير باسم السوء لأن ذلك يكون في الأكثر إيصالًا للضرر إلى الغير، والضرر سوء حاضر، فأما الذنب الذي يخص الإنسان فذلك في الأكثر لا يكون ضررًا حاضرًا لأن الإنسان لا يوصل الضرر إلى نفسه.واعلم أن هذه الآية دالة على حكمين:الأول: أن التوبة مقبولة عن جميع الذنوب سواء كانت كفرًا أو قتلًا، عمدًا أو غصبًا للأموال لأن قوله: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} عم الكل الثاني: أن ظاهر الآية يقتضي أن مجرد الاستغفار كاف، وقال بعضهم: أنه مقيد بالتوبة لأنه لا ينفع الاستغفار مع الإصرار، وقوله: {يَجِدِ الله غَفُورًا رَّحِيمًا} معناه غفورًا رحيمًا له، وحذف هذا القيد لدلالة الكلام عليه، فإنه لا معنى للترغيب في الاستغفار إلا إذا كان المراد ذلك. اهـ..قال القرطبي: قال ابن عباس: عرض الله التوبة على بني أُبَيْرِق بهذه الآية، أي {وَمَن يَعْمَلْ سواءا} بأن يسرق {أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} بأن يشرك {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله} يعني بالتوبة، فإن الاستغفار باللسان من غير توبة لا ينفع، وقد بيّناه في آل عمران وقال الضحاك: نزلت الآية في شأن وحشي قاتِل حمزة أشرك بالله وقتل حمزة، ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إني لنادِم فهل لي من توبة؟ فنزل: {وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} الآية.وقيل: المراد بهذه الآية العموم والشمول لجميع الخلق.وروى سفيان عن أبي إسحاق عن الأسود وعلقمة قالا: قال عبد الله بن مسعود من قرأ هاتين الآيتين من سورة النساء ثم استغفر غفر له: {وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُورًا رَّحِيمًا} {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظلموا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فاستغفروا الله واستغفر لَهُمُ الرسول لَوَجَدُواْ الله تَوَّابًا رَّحِيمًا}.وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: كنت إذا سمعت حديثًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعني الله به ما شاء، وإذا سمعته من غيره حلفته، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر: قال: ما من عبد يذنب ذنبًا ثم يتوضأ ويصلي ركعتين ويستغفر الله إلا غَفَر له، ثم تلا هذه الآية {وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُورًا رَّحِيمًا}. اهـ..قال أبو حيان: {ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا} الظاهر أنهما غير أنّ عمل السوء القبيح الذي يسوء غيره، كما فعل طعمة بقتادة واليهودي.وظلم النفس ما يختص به كالحلف الكاذب.وقيل: ومن يعمل سوءًا من ذنب دون الشرك، أو يظلم نفسه بالشرك انتهى.وقيل: السوء الذنب الصغير، وظلم النفس الذنب الكبير.وقال أبو عبد الله الرازي: وخص ما يبدي إلى الغير باسم السوء، لأن ذلك يكون في الأكثر لا يكون ضررًا حاضرًا، لأنّ الإنسان لا يوصل الضرر إلى نفسه.وقيل: السوء هنا السرقة.وقيل: الشرك.وقيل: كل ما يأثم به.وقيل: ظلم النفس هنا رمي البريء بالتهمة.وقيل: ما دون الشرك من المعاصي.وقال ابن عطية: هما بمعنى واحد تكرر باختلاف لفظ مبالغة.والظاهر تعليق الغفران والرحمة للعاصي على مجرد الاستغفار وأنه كاف، وهذا مقيد بمشيئة الله عند أهل السنة.وشرط بعضهم مع الاستغفار التوبة، وخص بعضهم ذلك بأنْ تكون المعصية مما بين العبد وبين ربه، دون ما بينه وبين العبيد.وقيل: الاستغفار التوبة.وفي لفظة: يجد الله غفورًا رحيمًا، مبالغة في الغفران.كأنّ المغفرة والرحمة معدَّان لطالبهما، مهيآن له متى طلبهما وجدهما.وهذه الآية فيها لطف عظيم ووعد كريم للعصاة إذا استغفروا الله، وفيها تطلب توبة بني أبيرق والذابين عنهم واستدعاؤهم لها.وعن ابن مسعود: أنها من أرجى الآيات. اهـ.
|