الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)
.قسمة صلاح الدين الأعمال بين ولده وأخيه. كان ابنه العزيز عثمان بحلب في كفالة أخيه العادل وابنه الأكبر الأفضل علي بمصر في كفالة تقي الدين عمر ابن أخيه شاهنشاه بعثه إليها عندما استدعى العادل منها كما مر فلما مرض بحران أسف على كونه لم يول أحدا من ولده استقلالا وسعى إليه بذلك بطانته فبعث ابنه عثمان العزيز إلى مصر في كفالة أخيه العادل كما كان بحلب ثم أقطع العادل حران والرها وميافارقين من بلاد الجزيرة وترك عثمان ابنه بمصر ثم بعث ابنه الأفضل وتقي الدين ابن أخيه فامتنع تقي الدين من الحضور واعتزم على المسير إلى المغرب واللحاق بمولاه قراقوش في ولايته التي حصلت له بطرابلس والجريد من إفريقية فراسله صلاح الدين ولاطفه ولما وصل أقطعه حماة ومنبج والمعرة وكفرطاب وجبل جوز وسائر أعمالها وقيل إن تقي الدين لما أرجف بمرض صلاح الدين وموته تحرك في طلب الأمر لنفسه وبلغ ذلك صلاح الدين فأرسل الفقيه عيسى الهكاري وكان مطاعا فيهم وأمره بإخراج تقي الدين من مصر والمقام بها فسار ودخلها على حين غفلة وأمر تقي الدين بالخروج فأقام خارج البلد وتجهز للمغرب فراسله صلاح الدين إلى آخر الخبر والله تعالى أعلم..اتفاق القمص صاحب طرابلس مع صلاح الدين ومنابذة البرنس صاحب الكرك له وحصاره إياه والإغارة على عكا. كان القمص صاحب طرابلس وهو ريمند بن ريمند بن صنجيل تزوج بالقومصة صاحبة طبرية وانتقل إليها فأقام عندها ومات ملك الإفرنج بالشام وكان مجذوما كما مر وأوصى بالملك لابن أخيه صغيرا فكفله هذا القمص وقام بتدبيره لملكه لعظمه فيهم وطمع أن تكون كفالته ذريعة إلى الملك ثم مات الصغير فانتقل الملك إلى أبيه ويئس القمص عندها مما كان يحدث به نفسه ثم إن الملكة تزوجت ابن غتم من الإفرنج القادمين من المغرب وتوجته وأحضرت البطرك والقسوس والرهبان والاستبارية والدواوية واليارونة وأشهدتهم وخروجها له عن الملك ثم طولب القمص بالجباية أيام كفالته الصبي فأنف وغضب وجاهر بالشقاق لهم وراسل صلاح الدين وسار إلى ولايته وخلف له على مصره من أهل ملته وأطلق له صلاح الدين جماعة من زعماء النصارى كانوا أسارى عنده فازاداد غبطة بمظاهرته وكان ذلك ذريعة لفتح بلادهم وارتجاع القدس منهم وبث صلاح الدين السرايا من ناحية طبرية في سائر بلاد الإفرنج فاكتسحوها وعادوا غانمين وذلك كله سنة اثنتين وثمانين وكان البرنس ارناط صاحب الكرك من أعظم الإفرنج مكرا وأشدهم ضررا وكان صلاح الدين قد سلط الغارة والحصار على بلده حتى سأل في الصلح فصالحه فصلحت السابلة بين الآمين ثم مرت في هذه السنة قافلة كثيرة التجار والجند فغدر بهم وأسر وأخذ ما معهم وبعث إليه صلاح الدين فأصر على غدرته فنذر أنه يقتله إن ظفر به واستنفر الناس للجهاد من سائر الأعمال من الموصل والجزيرة وإربل ومصر والشام وخرج من دمشق في محرم سنة ثلاث وثمانين وانتهى إلى رأس الماء وبلغه أن البرنس ارناط صاحب الكرك يريد أن يتعرض للحاج من الشام وكان معهم ابن أخيه محمد بن لاجين وغيره فترك من العساكر مع ابنه الأفضل علي وسار إلى بصرى وسمع البرنس بمسيره فأحجم عن الخروج ووصل الحاج سالمين وسار صلاح الدين إلى الكرك وبث السرايا في أعمالها وأعمال الشويك فاكتسحوهما والبرنس محصور بالكرك وقد عجز الإفرنج عن إمداده لمكان العساكر مع الأفضل بن صلاح الدين ثم بعث صلاح الدين إلى ابنه الأفضل فأمره بإرسال بعث إلى عكا ليكتسحوا نواحيها فبعث مظفر الدين كوكبري صاحب حران والرها وقايماز النجمي وداروم الباروقي وساروا في آخر صفر فصبحوا صفورية وبها جمع من الفداوية والاستبارية فبرزوا إليهم وكانت بينهم حروب شديدة تولى الله النصر فيها للمسلمين وانهزم الإفرنج وقتل مقدمهم وامتلأت أيدي المسلمين من الغنائم وانقلبوا ظافرين ومروا بطبرية وبها القمص فلم يهجهم لما تقدم بينه وبين صلاح الدين من الولاية وعظم هذا الفتح وسار البشير به في البلاد والله تعالى أعلم..هزيمة الإفرنج وفتح طبرية ثم عكا. ولما إنهزم الفداوية والإستبارية بصفورية ومر المسلمون بالغنائم على القمص ريمند بطبرية ووصلت البشائر بذلك إلى صلاح الدين عاد إلى معسكره الذي مع ابنه ومر بالكرك واعتزم على غزو بلاد الإفرنج فاعترض عساكره وبلغه أن القمص ريمند قد راجع أهل ملته ونقض عهده معه وأن البطرك والقسس والرهبان أنكروا عليه مظاهرته للمسلمين ومرور عساكرهم به بأسرى النصارى وغنائمهم ولم يعترضهم مع إيقاعهم بالفداوية والإستبارية أعيان الملة وتهددوه بإلحاق كلمة الكفر به فتنصل وراجع رأيه واعتذر إليهم فقبلوا عذره وخلص لكفره وطواغيته فجددوا الحلف والاجتماع وساروا من عكا إلى صفورية وبلغ الخبر إلى صلاح الدين وشاور أصحابه فمنهم من أشار بترك اللقاء وشن الغارات عليهم حتى يضعفوا ومنهم من أشار باللقاء لنزول عكا واستيفاء ما فعلوه في المسلمين بالجزيرة فاستصوبه صلاح الدين واستعجل لقاءهم ثم رحل من الأقحوانة أواخر رمضان فسار حتى خلف طبرية وتقدم إلى معسكر الإفرنج فلم يفارقوا خيامهم فلما كان الليل أقام طائفة من العسكر فسار إلى طبرية فملكها من ليلته عنوة ونهبها وأحرقها وامتنع أهلها بالقلعة ومعهم الملكة وأولادها فبلغ الخبر إلى الإفرنج فضج القمص وعمد إلى الصلح وأطال القول في تعظيم الخطب وكثرة المسلمين فنكر عليه البرنس صاحب الكرك واتهمه ببقائه على ولاية صلاح الدين واعتزموا على اللقاء ووصلوا من مكانهم لقصد المعسكر وعاد صلاح الدين إلى معسكره وبعدت المياه من حوالي الإفرنج وعطشوا ولم يتمكنوا من الرجوع فركبهم صلاح الدين دون قصدهم واشتدت الحرب وصلاح الدين يجول بين الصفوف يتفقد أحوال المسلمين ثم حمل القمص على ناحية تقي الدين عمر بن شاه حملة استمات فيها هو وأصحابه فأفرج له الصف وخلص من تلك الناحية إلى منجاته واختل مصاف الإفرنج وتابعوا الحملات وكان بالأرض هشيم أصابه شرر فاضطرم نارا فجهدهم لفحها ومات جلهم من العطش فوهنوا وأحاط بهم المسلمون من ناحية فارتفعوا إلى تل بناحية حطين لينصبوا خيامهم به فلم يتمكنوا إلا من خيمة الملك فقط والسيف يجول فيهم مجاله حتى فني أكثرهم ولم يبق إلا نحو المائة والخمسين من خلاصة زعمائهم مع ملكهم والمسلمون يكرون عليهم مرة بعد أخرى حتى ألقوا ما بأيديهم وأسروا الملك وأخاه البرنس أرناط صاحب الكرك وصاحب جبيل وابن هنفري ومقدم الفداوية وجماعة من الفداوية والإستبارية ولم يصابوا منذ ملكوا هذه البلاد أعوام التسعين والأربعمائة بمثل هذه الوقعة ثم جلس صلاح الدين في خيمته وأحضر هؤلاء الأسرى فقرع الملك ووبخه أن أجلسه إلى جانبه وفاء بمنصب الملك وقام إلى البرنس فتولى قتله بيده حرصا على الوفاء بنذره بعد أن عرفه بغدرته وبجسارته على ما كان يرومه في الحرمين وحبس الباقين وأما القمص صاحب طرابلس فنجا كما ذكرناه إلى بلده ثم مات لأيام قلائل أسفا ولما فرغ صلاح الدين من هزيمتهم نهض إلى طبرية فنازلها واستأمنت إليه الملكة بها فأمنها في ولدها وأصحابها ومالها وخرجت إليه فوفى لها وبعث الملك وأعيان الأسرى إلى دمشق فحبسوا بها وجمع أسرى الفداوية والاستبارية بعد أن بذل لمن يجده منهم من المقاتلة خمسين دينارا مصرية لكل واحد وقتلهم أجمعين قال ابن الأثير ولقد اجتزت بمكان الوقعة بعد سنة فرأيت عظامهم ماثلة على البعد أحجفتها السيول ومزقتها السباع ولما فرغ صلاح الدين من طبرية سار عنها إلى عكا فنازلها واعتصم الإفرنج الذين بها بالأسوار وشادوا بالاستئمان فأمنهم وخيرهم فاختاروا الرحيل فحملوا ما أقلته رحالهم ودخلها صلاح الدين غرة جمادى سنة ثلاث وثمانين وصلوا في جامعها القديم الجمعة يوم دخولهم فكانت أول جمعة أقيمت بساحل الشام بعد استيلاء الإفرنج عليه وأقطع صلاح الدين بلد عكا لابنه الأفضل وجميع ما كان فيه للفداوية من أقطاع وضياع ووهب للفقيه عيسى الهكاري كثيرا مما عجز الإفرنج عن حمله وقسم الباقي على أصحابه ثم قسم الأفضل ما بقي في أصحابه بعد مسير صلاح الدين ثم أقام صلاح الدين أياما حتى أصلح أحوالها ورحل عنها والله تعالى أعلم.
|