الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)
.الخبر عن أبناء جفنة ملوك غسان بالشام من هذه الطبقة وأوليتهم ودولهم وكيف انساق الملك إليهم ممن قبلهم: أول ملك كان للعرب بالشام فيما علمناه للعمالقة ثم لبني إرم بن سام ويعرفون بالأرمانيين وقد ذكرنا خلاف الناس في العمالقة الذين كانوا بالشام هل هم من ولد عمليق بن لاوذ بن سام أو من ولد عماليق بن أليفاز بن عيصو وأن المشهور والمتعارف أنهم من عمليق بن لاوذ وكان بنو إرم يومئذ بادية في نواحي الشام والعراق وقد ذكروا في التوارة وكان لهم مع ملوك الطوائف حروب كما تقدمت الإشارة إلى ذلك كله من قبل وكان آخر هؤلاء العمالقة ملك السميدع بن هوثر وهو الذي قتله يوشع بن نون حين تغلب بنو إسرائيل على الشام وبقي في عقبه ملك في بني الظرب بن حسان من بني عاملة العماليق وكان آخرهم ملكا الزبا بنت عمرو بن السميدع وكانت قضاعة مجاورين لهم في ديارهم بالجزيرة وغلبوا العمالقة لما فشل ريحهم فلما هلكت الزبا وانقرض أمر بني الظرب بن حسان ملك أمر العرب تنوخ من بطون قضاعة وهم تنوخ بن مالك بن فهم بن تيم الله بن الأسود بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة وقد تقدم ذكر نزولهم بالحيرة والأنبار ومجاورتهم للأرمانيين فملك من تنوخ ثلاثة ملوك فيما ذكر المسعودي: النعمان بن عمرو ثم ابنه عمرو بن النعمان ثم أخوه الحوار بن عمرو وكانوا مملكين من قبل الروم ثم تلاشى أمر تنوخ واضمحل وغلبت عليهم سليح من بطون قضاعة ثم الضجاعم منهم من ولد ضجعم بن سعد بن سليح واسمه عمرو بن حولان بن عمران بن الحاف فتنصروا وملكتهم الروم على العرب وأقاموا على ذلك مدة وكان نزولهم ببلاد مؤاب من أرض البلقاء ويقال: إن الذي ولى سليح على نواحي الشام هو قيصر طيطش بن قيصر ماهان.قال ابن سعيد: كان لبني سليح دولتان في بني ضجعم وبني العبيد فأما بنو ضجعم فملكوا إلى أن جاءهم غسان فسلبوهم ملكهم وكان آخرهم زياد بن الهبولة سار بمن أبقى السيف منهم إلى الحجاز فقتله والي الحجاز للتبابعة حجر آكل المرار قال: ومن النسابين من يطلق تنوخ على بني ضجعم ودوس الذين تنخوا بالبحرين أي أقاموا ثم سار الضجاعم إلى برية الشام ودوس إلى برية العراق قال: وأما بنو العبيد بن الأبرص بن عمرو بن أشجع بن سليح فتوارثوا الملك بالحضر الذي آثاره باقية في برية سنجار والمشهور منهم الضيزن بن معاوية بن العبيد المعروف عند الجرامقة بالساطرون وقصته مع سابور معروفة اهـ كلام ابن سعيد ثم استحالت صبغة الرياسة عن العرب لحمير وصارت إلى كهلان إلى بلاد الحجاز ولما فصلت الأزد من اليمن كان نزولهم ببلاد عك ما بين زبيد وزمع فحاربوهم وقتلوا ملك عك قتله ثعلبة بن عمرو مزيقيا قال بعض أهل اليمن عك بن عدنان بن عبد الله بن أدد قال الدارقطني: عك بن عبد الله بن عدثان بالثاء المثلثة وضم العين ولا خلاف أنه بنونين كما يختلف في دوس بن عدثان قبيلة من الأزد أنه بالثاء المثلثة ثم نزلوا بالظهران وقاتلوا جرهم بمكة ثم افترقوا في البلاد فنزل بنو نصر بن أزد الشراة وعمان ونزل بنو ثعلبة بن عمرو مزيقيا بيثرب وأقام بنو حارثة بن عمر وبمر الظهران بمكة وهم يقال لهم خزاعة.وقال المسعودي: سار عمرو مزيقيا حتى إذا كان الشراة بمكة أقام هنالك بنو نصر بن الأزد وعمران الكاهن وعدي بن حارثة بن عمرو بالأزد حتى نزلوا بين بلاد الأشعريين وعك على ماء يقال له غسان بين واديين يقال لهما زبيد وزمع فشربوا من ذلك الماء فسموا غسان وكانت بينهم وبين معد حروب إلى أن ظفرت بهم معد فأخرجوهم إلى الشراة وهو جبل الأزد الذين هم به على تخوم الشام ما بينه وبين الجبال مما يلي أعمال دمشق والأردن.قال ابن الكلبي: ولد عمرو بن عامر مزيقيا جفنة ومنه الملوك والحرث وهو محرق أول من عاقب بالنار وثعلبة وهو العنقا وحارثة وأبا حارثة ومالكا وكعبا ووداعة وهو في همدان وعوفا ودهل وائل ودفع ذهل إلى نجران ومنه أسقف عبيدة وذهلا وقيسا درج هؤلاء الثالثة وعمران بن عمرو فلم يشرب أبو حارثة ولا عمران ولا وائل ماء غسان فليس يقال لهم غسان وبقي من أولاد مزيقيا ستة شربوا منه فهم غسان وهم: جفنة وحارثة وثعلبة ومالك وكعب وعوف ويقال إن ثعلبة وعوفا لم يشربا منه ولما نزلت غسان الشام جاوروا الضجاعم وقومهم من سليح ورئيس غسان يومئذ ثعلبة بن عمرو بن المجالد بن الحرث بن عمرو بن عدي بن عمرو بن مازن بن الأزد ورئيس الضجاعم يومئذ داود اللثق بن هبولة بن عمرو بن عوف بن ضجعم وكانت الضجاعم هؤلاء ملوكا على العرب عمالا للروم كما قلناه يجمعون ممن نزل بساحتهم لقيصر فغلبتهم غسان على ما بأيديهم من رياسة العرب لما كانت صبغة رياستهم الحميرية قد استحالت وعادت إلى كهلان وبطونها وعرفت الرياسة منها باليمن قبل فصولهم وربما كانوا أولى عدة وقوة وإنما العزة للكاثر.وكانت غسان لأول نزولها بالشام طالبها ملوك الضجاعم بالأتاوة فمانعتهم غسان فاقتتلوا فكانت الدائرة على غسان وأقرت بالصغار وأدت الأتاوة حتى نشأ جذع بن عمرو بن المجالد بن الحرث بن عمرو بن المجالد بن الحرث بن عمرو بن عدي بن عمرو بن مازن بن الأزد ورجال سليح من ولد رئيسهم داود اللثق وهو سبطة بن المنذر داود ويقال بل قتله فالتقوا فغلبتهم غسان وأقادتهم وتفردوا بملك الشام وذلك عند فساد كان بين الروم وفارس فخاف ملك الروم أن يعينوا عليه فارسا فكتب إليهم واستدناهم ورئيسهم يومئذ ثعلبة بن عمرو أخو جذع بن عمرو وكتبوا بينهم الكتاب على أنه إن دهمهم أمر من العرب أمدهم بأربعين ألفا من الروم وإن دهمه أمر أمدته غسان بعشرين ألفا وثبت ملكهم على ذلك وتوارثوه أول من ملك منهم ثعلبة بن عمرو فلم يزل ملكها إلى أن هلك وولي مكانه منهم ثعلبة بن عمرو مزيقيا.قال الجرجاني: وبعد ثعلبة بن عمرو ابنه الحرث بن ثعلبة يقال إنه ابن مارية ثم بعده ابنه المنذر بن الحرث ثم ابنه النعمان بن المنذر بن الحرث ثم أبو بشر بن الحرث بن جبلة بن الحرث بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة هكذا نسبه بعض النساب والصحيح أنه ابن عوف بن الحرث بن عوف بن عمرو بن عدي بن عمرو بن مازن ثم الحرث الأعرج ابن أبي شمر ثم عمرو بن الحرث الأعرج ثم المنذر بن الحرث الأعرج ثم الأيهم بن جبلة بن الحرث بن جبلة بن الحرث بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة ثم ابنه جبله.وقال المسعودي: أول من ملك منهم الحرث بن عمرو مزيقيا ثم بعده الحرث بن ثعلبة بن جفنة وهو ابن مارية ذان القرطين وبعده النعمان بن الحرث بن جفنة بن الحرث ثم أبو شمر بن الحارث بن ثعلبة بن جفنة بن الحارث ثم ملك بعده أخوه المنذر بن الحارث ثم أخوه جبلة بن الحارث ثم بعده عوف بن أبي شمر ثم بعده الحارث بن أبي شمر وعلى عهده كانت البعثة وكتب له النبي صلى الله عليه وسلم فيمن كتب إليه من ملوك تهامة والحجاز واليمن وبعث إليه شجاع بن وهب الأسدي يدعوه إلى الإسلام ويرغبه في الدين كذا عند ابن إسحق وكان النعمان بن المنذر على عهد الحارث بن أبي شمر هذا وكانا يتنازعان في الرياسة ومذاهب المدح وكانت شعراء العرب تفد عليهما مثل الأعشى وحسان بن ثابت وغيرهما ومن شعر حسان رضي الله عنه في مدح أبناء جفنة:ثم ملك بعد الحارث بن أبي شمرا ابنه النعمان ثم ملك بعده جبلة بن الأيهم بن جبلة وجبلة جده هو الذي ملك بعد أخويه شمر والمنذر.وقال ابن سعيد: أول من ملك من غسان بالشام وأذهب ملك الضجاعم جفنة بن مزيقيا ونقل عن صاحب تواريخ الأمم: ولما ملك جفنة بنى جلق وهي دمشق وملك خمسا وأربعين سنة واتصل الملك في بنيه إلى أن كان منهم الحارث الأعرج ابن أبي شمر وأمه مارية ذات القرطين من بني جفنة بنت الهانيء المذكورة في شعر حسان بأرض البلقاء ومعان قال ابن قتيبة: وهو الذي سار إليه المنذر بن ماء السماء من ملوك الحيرة في مائة ألف فبعث إليه الحارث مائة من قبائل العرب فيهم لبيد الشاعر وهو غلام فأظهروا أنهم رسل في الصلح حتى إذا أحاطوا برواق المنذر فتكوا به وقتلوا جميع من كان معه في الروق وركبوا خيولهم فمنهم من نجا ومنهم من قتل وحملت غسان على عسكر المنذر وقد اختطوا فهزموهم وكانت حليمة بنت الحارث تحرض الناس وهم منهزمون على القتال فسمي يوم حليمة ويقال إن النجوم ظهرت فيه بالنهار من كثرة العجاج ثم توالى الملك في ولد الحارث الأعرج إلى أن ملك منهم جفنة بن المنذر بن الحارث الأعرج وهو محرق لأنه حرق الحيرة دار ملك آل النعمان وكان جوالا في الآفاق وملك ثلاثين سنة ثم كان ثالثه في الملك النعمان بن عمرو بن المنذر الذي بنى قصر السويدا وقصر حارث عند صيدا وهو مذكور في شعر النابغة ولم يكن أبوه ملكا وإنما كان يغزو بالجيوش ثم ملك جبلة بن النعمان وكان منزله بصفين وهو صاحب عين أباغ يوم كانت له الهزيمة فيه على المنذر بن المنذر ابن ماء السماء وقتل المنذر في ذلك اليوم ثم اتصل الملك في تسعة منهم بعده وكان العاشر أبو كرب النعمان بن الحارث الذي رثاه النابغة وكان منزله بالجولان من جهة دمشق ثم ملك الأيهم بم جبلة بن الحارث وكان له رأي في الإفساد بين القبائل حتى أفنى بعضهم فعل ذلك ببني جسر وعاملة وغيرهم وكان منزله بتدمر وملك بعده منهم خمسة فكان السادس منهم ابنه جبلة بن الأيهم وهو آخر ملوكهم اهـ كلام ابن سعيد.واستفحل ملك جبلة هذا وجاء الله بالإسلام وهو على ملكه ولما افتتح المسلمون الشام أسلم جبلة وهاجر إلى المدينة واستشرف أهل المدينة لمقدمه حتى تطاول النساء من خدورهن لرؤيته لكرم وفادته وأحسن عمر رضي الله عنه نزله وأكرم وفادته وأجله بأرفع رتب المهاجرين ثم غلب عليه الشقاء ولطم رجلا من المسلمين من فزارة وطيء فضل إزاره وهو يسحبه في الأرض ونابذه إلى عمر رضي الله عنه في القصاص فأخذته العزة بالإثم فقال له عمر رضي الله عنه: لا بد أن أقيده منك فقال له: إذن أرجع عن دينكم هذا الذي يقاد فيه للسوقة من الملوك فقال له عمر رضي الله عنه: إذن أضرب عنقك فقال أمهلني الليلة حتى أرى رأيي واحتمل رواحله وأسرى فتجاوز الدروب إلى قيصر ولم يزل بالقسطنطينية حتى مات سنة عشرين من الهجرة وفيما تذكره الثقات أنه ندم ولم يزل باكيا على فعلته تلك وكان فيما يقال يبعث بالجوائز إلى حسان بن ثابت لما كان منه في مدح قومه ومدحه في الجاهلية وعند ابن هشام أن شجاع بن وهب إنما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبلة.قال المسعودي: جميع ملوك غسان بالشام أحد عشر ملكا وقال: إن النعمان والمنذر إخوة جبلة وأبي شمر وكلهم بنو الحارث بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة ملكوا كلهم قال: وقد ملك الروم على الشام من غير آل جفنة مثل: الحارث الأعرج وهو أبو شمر بن عمر بن الحارث بن عوف وعوف هذا جد ثعلبة بن عامر قاتل داود اللثق وملكوا عليهم أيضا أبا جبيلة بن عبد الله بن حبيب بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم بن الخزرج بن ثعلبة بن مزيقيا وهو أبو جبيلة الذي استصرخه مالك بن العجلان على يهود يثرب حسبما نذكر بعد.وقال ابن سعيد عن صاحب تواريخ الأمم: إن جميع ملوك بني جفنة اثنان وثلاثون ومدتهم ستمائة سنة ولم يبق لغسان بالشام قائمة وورث أرضهم بها قبيلة طيء قال ابن سعيد: أمراؤهم بنو مرا وأما الآن فأمراؤهم بنو مهنا وهما معا لربيعة بن علي ابن مفرج بن بدر بن سالم بن علي بن سالم بن قصة بن بدر بن سميع وقامت غسان بعد منصرفها من الشام بأرض القسطنطينية حتى انقرض ملك القياصرة فتجهزوا إلى جبل شركس وهو ما بين بحر طبرستان وبحر نيطش الذي يمده خليج القسطنطينية وفي هذا الجبل باب الأبواب وفيه من شعوب الترك المنتصرة الشركس وأركس واللاص وكسا ومعهم أخلاط من الفرس ويونان والشركس غالبون على جميعهم فانحازت قبائل غسان إلى هذا الجبل عند انقراض القياصرة والروم وتحالفوا معهم واختلطوا بهم ودخلت أنساب بعضهم في بعض حتى ليزعم كثير من الشركس أنهم من نسب غسان والله حكمة بالغة في خلقه والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين لا انقضاء لملكه ولا رب غيره.
|