الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)
.أخبار القادسية: ولما دهم فارس من المسلمين بالسواد ما دهمهم وهم مختلفون بين رستم والفيرزان واجتمع عظمائهم وقالوا لهما إما أن تجتمعا وإلا فنحن لكما حرب فقد عرضتمونا للهلكة وما بعد بغداد وتكريت إلى المدار فأطاعا لذلك وفزعوا إلى بوران يسألونها في ولد آل كسرى يولونه عليهم فأحضرت لهم النساء والسراري وبسطوا عليهن العذاب فذكروا لهم غلاما من ولد شهريار بن كسرى إسمه يزدجرد أخذته أمه عندما قتل شيرويه أبناء أبيه فسألوا أمه عنه فدلتهم عليه عند أخواله كانت أودعته عندهم حينئذ فجاؤا به ابن إحدى وعشرين سنة فملكوه واجتمعوا عليه وتبارى المزاربة في طاعته وعين المسالح والجنود لكل ثغر ومنها الحيرة والأبلة والأنبار وخرجوا إليها من المدائن.وكتب المثنى بذلك إلى عمر وبينما هم ينتظر الجواب انتقض أهل السواد وكفروا وخرج المثنى إلى ذي قار ونزل الناس في عسكر واحد ولما وصل كتابه إلى عمر قال: والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب فلم يدع رئيسا ولا ذا رأي وشرف وبسطة ولا خطيبا ولا شاعرا إلا رماهم به فرماهم بوجوه الناس وكتب إلى المثنى يأمره بخروج المسلمين من بين العجم والتفرق في المياه بحيالهم وأن يدعو الفرسان وأهل النجدات من ربيعة ومضر ويحضرهم طوعا وكرها فنزل المسلمون بالحلة وسروا إلى عصي وهو جبل البصرة متناظرين وكتب إلى عماله على العرب أن يبعثوا إليه من كانت له نجدة أو فرس أو سلاح أو رأي وخرج إلى الحج فحج سنة ثلاث عشرة ورجع فجاءته أفواجهم إلى المدينة ومن كان أقرب إلى العراق انضم إلى المثنى فلما اجتمعت عنده إمداد العرب خرج من المدينة واستخلف عليها عليا وعسكر على صرار من ضواحيها وبعث على المقدمة طلحة وجعل على المجنبتين عبد الرحمن والزبير وانبهم أمره على الناس ولم يطق أحد سؤاله فسأله عثمان فأحضر الناس واستشارهم في المسير إلى العراق فقال العامة: سر نحن معك فوافقهم ثم رجع إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحضر عليا وطلحة والزبير وعبد الرحمن واستشارهم فأشاروا بمقامه وأن يبعث رجلا بعده آخر من الصحابة بالجنود حتى يفتح الله على المسلمين ويهلك عدوهم فقبل ذلك ورأى فيه الصواب وعين لذلك سعد بن أبي وقاص وكان على صدقات هوزان فأحضره وولاه حرب العراق وأوصاه وقال: ياسعد بن أم سعد لا يغرنك من الله أن يقال خال رسول الله وصاحب رسول الله فإن الله لا يمحو السيء ولكنه يمحو السيء بالحسن وليس بين الله وبين أحد نسب إلا بطاعته فالناس في دين الله سواء الله ربهم وهم عبادة يتفاضلون بالعافية ويدركون ما عنده بالطاعة فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلزمه فألزمه وعليك بالصبر.ثم سرحه أربعة آلاف ممن اجتمع إليه فيهم: حميضة بن النعمان بن حميضة على بارق وعمرو بن معدي كرب وأبو سبرة بن أبي رهم على مذحج ويزيد بن الحرث الصدائي على عذرة وخبب ومسلية وبشر بن عبد الله الهلالي على قيس عيلان والحصين بن نمير ومعاوية بن حديج على السكون وكندة ثم أمر بعد خروجه بألف يماني وألفي فخرى وسار سعد وبلغه في طريقه بزرود أن المثنى مات من جراحة انتقضت وأنه استخلف على الناس بشير بن الخصاصية وكانت جموع المثنى ثلاثة آلاف وكذلك أربعة آلاف من تميم والرباب وأقاموا وعمر ضرب على بني أسد أن ينزلوا على حد أرضهم فنزلوا في ثلاثة آلاف وأقاموا بين سعد والمثنى وسار سعد إلى سيراف فنزلها واجتمعت إليه العساكر ولحقه الأشعث بن قيس ومعه ثلاثون ألفا ولم يكن أحد أجرأ على الفرس من ربيعة ثم عبى سعد كتائب من سيراف وأمر الأمراء وعرف على كل عشرة عريفا وجعل الرايات لأهل السابقة ورتب المقدمة والساقة والمجنبات والطلائع وكل ذلك بأمر عمر ورأيه وبعث في المقدمة زهرة بن عبد الله بن قتادة الحيوي من بني تميم فانتهى إلى العذيب وعلى اليمامة عبد الله بن المعتمر وعلى المسيرة شرحبيل بن السمط وخليفة بن خالد بن عرفطة حليف بني عبد شمس وعاصم بن عمر التميمي وسواد بن مالك التميمي على الطلائع وسلمان بن ربيعة الباهلي على المجردة ثم سار على التعبية ولقيه المهنى بن حارثة الشيباني بسيراف وقد كان بعد موت أخيه المثنى سار بذي قار إلى قابوس واستلحمه ومن معه ورجع إلى ذي قار.وجاء إلى سعد بالخبر ليعلمه بوصية المثنى إليه أن لا تدخلوا بلاد فارس وقاتلوهم على حد أرضهم بادئ حجر من أرض العرب فإن يظهر الله المسلمين فلهم ما وراءهم وإلا رجعتم إلى فئة ثم تكونوا أعلم بسبيهم وأجرأ على أرضهم إلى أن يرد الله الكرب فترحم سعد ومن معه على المثنى وولى أخاه المهنى على عمله وتزوج سلمى زوجته ووصله كتاب عمر بمثل رأي المثنى يسأله عن سيراف ونزل العرب ثم أتى القادسية فنزلها بحيال القنطرة بين العتيق والخندق ووصله كتاب عمر يؤكد عليهم في الوفاء بالأنبار ولو كان إشارة أو ملاعبة وكان زهرة في المقدمة فبعث سرية للإغارة على الحيرة عليها بكر بن عبد الله الليثي وإذا أخت مرزيان الحيرة تزف إلى زوجها فحمل بكير على ابن الأزادية فقتله وحملوا الأثقال والعروس في ثلاثين امرأة ومائة من التوابع ومعهم ما لا يعرف قيمته ورجع بالغنائم فصبح سعد بالعذيب فقسمه في المسلمين.ولما رجع سعد إلى القادسية أقام بها شهرا يشن الغارات بين كسكر والأنبار ولم يأته خبر عن الفرس وقد بلغت أخبارهم إلى يزدجر وأن ما بين الحيرة والفرات قد نهب وخرب فأحضر رستم ودفعه لهذا الوجه فتقاعد عنه وقال: ليس هذا من الرأي وبعث الجيوش يعقب بعضها بعضا أولى من مصادمة مرة فأبى يزدجرد إلا مسيره لذلك فعسكر رستم بساباط وكتب سعد بذلك إلى عمر فكتب إليه لا يكترثنك ما يأتيك عنهم واستعن بالله وتوكل عليه وابعث رجالا من أهل الرأي والجلد يدعونه فإن الله جاعل ذلك وهنا لهم.فأرسل سعد نفرا منهم: النعمان بن مقرن وقيس بن زرارة والأشعث بن قيس وفرات بن حيان وعاصم بن عمر عمرو بن معدي كرب والمغيرة بن شعبة والمهنى بن حارثة فقدموا على يزدجرد وتركوا رستم واجتمعوا واجتمع الناس ينظرون إليهم وإلى خيولهم ويردوهم فأحضرهم يزدجرد وقال لترجمانه: سلهم ما جاء بكم وما أولعكم بغزونا وبلادنا من أجل أنا تشاغلنا عنكم اجترأتم علينا؟ فتكلم النعمان بن مقرن بعد أن أستأذن أصحابه وقال ما معناه: إن الله رحمنا وأرسل إلينا رسولا صفته كذا يدعونا إلى كذا ووعدنا بكذا فأجابه منا قوم وتباعد قوم ثم أمر أن نجاهد من خالفه من العرب فدخلوا معه على وجهين مكره اغتبط وطائع ازداد حتى اجتمعنا عليه وعرفنا فضل ما جاء به ثم أمرنا بجهاد من يلينا من الأمم ودعائهم إلى الإنصاف فإن أبيتم فأمر أهون من ذلك وهو الجزية فإن أبيتم فالمناجزة فقال يزدجرد: لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عددا ولا أسوأ ذات بين منكم وقد كان أهل الضواحي يكفونا أمركم ولا تطمعوا أن تقوموا للفرس فإن كان بكم جهد أعطيناكم قوتا وكسوناكم وملكنا عليكم ملكا يرفق بكم فقال قيس بن زرارة: هؤلاء أشراف العرب والأشراف يستحيون من الأشراف وأنا أكلمك وهم يشهدون فأما ما ذكرت من سوء الحال فكما وصفت وأشد ثم ذكر من عيش العرب ورحمة الله بهم بإرسال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما قال النعمان الخ ثم قال له: إختر إما الجزية عن يد وأنت صاغر أو السيف وإلا فنج نفسك بالإسلام فقال يزدجرد: لو قتل أحد الرسل فبلي لقتلتكم ثم استدعى بوقر من تراب وحمل على أعظمهم وقال: إرجعوا إلى صاحبكم وأعلموه إني مرسل رستم حتى يدفنكم أجمعين في خندق القادسية ثم يدوخ بلادكم أعظم من تدويخ سابور فقام عاصم بن عمر فحمل التراب على عنقه وقال: أنا أشرف هؤلاء ولما رجع إلى سعد فقال: أبشر فقد أعطانا الله تراب أرضهم وعجب رستم من محاورتهم وأخبر يزدجرد بما قاله عاصم بن عمر فبعث في أثرهم إلى الحيرة فأعجزوهم.ثم أغار سواد بن مالك التميمي بعد مسير الوفد إلى يزدجرد على الفراض فاستاق ثلثمائة دابة بين بغل وحمار وثور وآخرها سمكا وصبح بها العسكر فقسمه سعد في الناس وواصلوا السرايا والبعوث لطلب اللحم وأما الطعام فكان عندهم كثيرا وسار رستم إلى ساباط في ستين ألف وعلى مقدمته الجالنوس في أربعين ألفا وساقته عشرون ألفا وفي الميمنة الهرمزان وفي الميسرة مهران بن بهرام الرازي وحمل معه ثلاثة وثلاثين فيلا ثمانية عشر في القلب وخمسة عشر في الجنبين ثم سار حتى نزل كوثى فأتى برجل من العرب فقال له رستم: ما جاء بكم وما تطلبون؟ فقال: نطلب وعد الله بأرضكم وأبنائكم إن لم تسلموا قال رستم: فإن قتلتم دون ذلك قال من قتل دخل الجنة ومن بقي أنجزه الله وعده قال رستم: فنحن إذا وضعنا في أيديكم فقال: أعمالكم وضعتكم وأسلمكم الله بها فلا يغرنك من ترى حولك فلست تحاول الناس إنما تحاول القضاء والقدر فغضب وأمر به فضربت عنقه.وسار فنزل الفرس وفشا من عسكره المنكر وغصبوا الرعايا أمواهم وأبناءهم حتى نادى رستم منهم بالويل وقال: صدق والله العربي وأتى ببعضهم فضرب عنقه ثم سار حتى نزل الحيرة ودعا أهلها فعزرهم وهم بهم فقال له ابن بقيلة: لا تجمع علينا أن تعجز عن نصرتنا وتلومنا على الدفع عن أنفسنا وأرسل سعد السرايا إلى السواد وسمع بهم رستم فبعث لاعتراضهم الفرس وبلغ ذلك سعدا فأمدهم بعاصم بن عمر فجاءهم وخيل فارس تحتوشهم فلما رأوا عاصم هربوا وجاء عاصم بالغنائم ثم أرسل سعد عمرو بن معدي كرب وطليحة الأسدي طليعة فلما ساورا فرسخا وبعضه لقوا المسالح فرجع عمرو ومضى طليحة حتى وصل عسكر رستم وبات فيه وهتك أطنااب خيمة أو خيمتين واقتاد بعض الخيل وخرج يعدو به فرسه ونذر به الفرس فركبوا في طلبه إلى أن أصبح وهم في أثره فكر على فارس فقتله ثم آخر وأسر الرابع وشارف عسكر المسلمين فرجعوا عنه ودخل طليحة على سعد بالفارسي ولم يخلف بعده فيهم فأسلم ولزم طليحة.ثم سار فنزل القادسية بعد ستة أشهر من المدائن وكان يطاول خوفا وتقية والملك يستحثه وكان رأى في منامه كأن ملكا نزل من السماء ومعه النبي صلى الله عليه وسلم ودفعه النبي إلى عمر فحزن لذلك أهل فارس في سيره ولما وصل القادسية وقف على العتيق حيال عسكر المسلمين والناس يتلاحقون حتى اغتموا من كثرتهم وركب رستم غداة تلك الليلة وصعد مع النهر وصوب حتى وقف على القنطرة وأرسل إلى زهرة فواقفه وعرض له بالصلح وقال: كنتم جيراننا وكنا نحسن إليكم ونحفظكم ويقرر صنيعهم مع العرب ويقول زهرة: ليس أمرنا بذلك وإنما طلبنا الآخرة وقد كنا كما ذكرت إلى أن بعث الله فينا رسولا دعانا إلى دين الحق فأجبناه وقال: قد سلطتكم على من لم يدن به وأنا منتقم بكم منهم وأجعل لكم الغلبة فقال رستم: وما هو دين الحق فقال: الشهادتان وإخراج الناس من عبادة الخلق إلى عبادة الله وأنتم إخوان في ذلك فقال رستم: فإن أجبنا إلى هذا ترجعون؟ فقال: إي والله فانصرف عنه رستم ودعا رجال فارس وذكر ذلك لهم فأنفوا وأرسل إلى سعد أن يبعث لنا رجلا نكلمه ويكلمنا فبعث إليهم ربعي بن عامر وحبسوه على القنطرة حتى أعلموا رستم فجلس على سرير من ذهب وبسط النمارق والوسائد منسوجة بالذهب وأقبل ربعي على فرسه وسيفه في خرقة ورمحه مشدودة بعصب وقدم حتى انتهى إلى البساط ووطئه بفرسه ثم نزل وربطها بوسادتين شقهما وجعل الحبل فيهما فلم يقبلوا ذلك وأظهروا التهاون ثم أخذ عباءة بعيره فاشتملها وأشاروا إليه بوضع سلاحه فقال: لو أتيتكم فعلت كذا فأمركم وإنما دعوتموني ثم أقبل يتوكأ على رمحه ويقارب خطوه حتى أفسد ما عليه من السبط ثم دنا من رستم وجلس على الأرض وركز رمحه على البساط وقال: إنا لا نقعد على زينتكم فقال له الترجمان: ما جاء بكم فقال: الله بعثنا لنخرج عبادة من ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام وأرسلنا بدينه إلى خلقه فمن قبله قبلنا منه وتركناه وأرضه ومن أبى قاتلناه حتى نفيء إلى الجنة أو الظفر فقال رستم: هل لكم أن تؤخر هذا الأمر حتى ننظر فيه؟ قال: نعم كم أحب إليك يوما أو يومين قال: لا بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا فقال: إن مما سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نمكن الأعداء أكثر من ثلاث فانظر في أمرك وأمرهم واختر إما الإسلام وندعك وأرضك أو الجزية فنقبل ونكف عنك وإن احتجت إلينا نصرناك أو المنابذة في الرابع أن تنبذ وأنا كفيل بهذا عن أصحابي قال أسيدهم أنت؟ قال: لا ولكن المسلمون كالجسد الواحد يجيز بعضهم عن بعض يجيز أدناهم على أعلاهم فخلا رستم برؤساء قومه وقال: رأيتم كلاما قط مثل كلام هذا الرجل؟ فأروه الاستخفاف بشأنه وثيابه فقال: ويحكم إنما أنظر إلى الرأي والكلام والسيرة والعرب تستخف اللباس وتصون الأحساب.ثم أرسل إلى سعد أن ابعث إلينا ذلك الرجل فبعث إليهم حذيفة بن محصن ففعل كما فعل الأول ولم ينزل عن فرسه وتكلم وأجاب مثل الأول فقال له: ما قعد بالأول عنا؟ فقال: أميرنا يعدل بيننا في الشدة والرخاء وهذه نوبتي فقال رستم: والمواعدة إلى متى؟ فقال: إلى ثلاث من أمس وانصرف وحاص رستم بأصحابه يعجبهم من شأن القوم وبعث في الغد عن آخر فجاءه المغيرة حتى جلس معه على سريره فأنزلوه فقال: لا أرى قوما أسفه منا معشر العرب لا نستعبد بعضا بعضا فظننتكم كذلك وكان أحسن بكم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض مع أني لم آتكم وإنما دعوتموني فقد علمت أنكم مغلوبون ولم يقم ملك على هذه السيرة فقالت السفلة: صدق والله العربي وقالت الأساطين: لقد رمانا بكلام لا تزال عبيدنا ينزعون إليه قاتل الله من يصغر أمر هذه الأمة ثم تكلم رستكم فعظم من أمر فارس بل من شأن فارس وسلطانهم وصغر أمر العرب وقال: كانت عيشتكم سيئة وكنتم تقدونا في الجدب فنردكم بشيء من التمر والشعير ولم يحملكم على ما صنعتم إلا ما بكم من الجهد ونحن نعطي أميركم كسوة وبغلا وألف درهم وكل رجل منكم حمل تمر وتنصرفون فلست أشتهي قتلكم فتكلم المغيرة وخطب فقال: أما الذي وصفتنا به من سوء الحال والضيق والاختلاف فنعرفه ولا ننكره والدنيا دول والشدة بعدها الرخاء ولو شكرتم ما آتاكم الله لكان شكركم قليلا عما أوتيتم وقد أسلمكم ضعف الشكر إلى تغير الحال وأن الله بعث فينا رسولا ثم ذكر مثل ما تقدم إلى التخيير بين الإسلام أو الجزية أو القتال ثم قال: وإن عيالنا ذاقوا طعام بلادكم فقالوا لا صبر لنا عنه فقال رستم: إذا تموتون دونها فقال المغيرة: يدخل من قتل منا الجنة ويظفر من بقي منا بكم فاستشاط غضبا وحلف أن لا يقع الصلح أبدا حتى أقتلكم أجمعين وانصرف المغيرة وخلا رستم بأهل فارس وعرض عليهم مصالحة القوم وحذرهم عاقبة حربهم فلجوا وبعث إليه سعد يعرض عليه الإسلام ويرغب فأجابه بمثل ما كان يقول لأولئك من الإمتنان على العرب والتعرض بالمطامع فلم يتفق شيء من رأيهم فقال رستم: تعبرون إلينا أم نعبر إليكم؟ فقالوا: بل اعبروا وأرسل إليهم سعد بذلك وأرادوا القنطرة فقال سعد: لا ولا كرامة لا نرد عليكم شيئا غلبناكم عليه فأبى فأتوا يسكرون العتيق بالتراب والقصب والبرادع حتى جعلوا جسرا.ثم عبر رستم له سريره وجلس عليه وضرب طيارة وعبر عسكره وجعل الفيلة في القلب والمجنبتين عليها الصناديق والرجال والرايات أمثال الحصون وجعل الجالنوس بينه وبين الميمنة والفيرزان بينه وبين الميسرة ورتب يزدجرد الرجال بين المدائن والقادسية وما بينه وبين رستم رجلا على دعوة تنتقل إليه ينبئهم أخبار رستم في أسرع وقت ثم أخذ المسلمون مصافهم واختط سعد قصره وكان به عرق النساء وأصابته معه دماميل لا يستطيع معه الجلوس فصعد على سطح القصر راكبا على وسادة في صدره وأشرف على الناس وعاب ذلك عليه بعض الناس فنزل واعتذر إليهم وأراهم القروح في جسده فعذروه واستخلف خالد بن عرفطة على الناس وحبس من شغب عليه في القصر وقيدهم وكان فيهم أبو محجن الثقفي وقيل إنما حبسه بسبب الخمر ثم خطب الناس وحثهم على الجهاد وذكرهم بوعد الله وذلك في المحرم سنة أربع عشرة وأخبرهم أنه استخلف خالد بن عرفطة وأرسل جماعة من أهل الرأي لتحريض الناس على القتال مثل المغيرة وحذيفة وعاصم وطليحة وقيس وغالب وعمرو ومن الشعراء الشماخ والحطيئة والعبدي بل وعبدة بن الطيب وغيرهم ففعلوا ثم أمر بقراءة الأنفال فهشت قلوب الناس وعيونهم وعرفوا السكينة مع قراءتها فلما فرغت القراءة قال سعد: الزموا مواقفكم فإذا صليتم الظهر فإني مكبر تكبيرة فكبروا واستعدوا فإذا سمعتم الثانية فكبروا وأتموا عدتكم فإذا سمعتم الثالثة فكبروا ونشطوا الناس فإذا سمعتم الرابعة فازحفوا حتى تخالطوا عدوكم وقولوا لا حول ولا قوة إلا بالله.فلما كبر الثالثة برز أهل النجدات فأنشبوا القتال وخرج أمثالهم من الفرس فاعتوروا الطعن والضرب وارتجزوا الشعر وأول من أسر في ذلك اليوم هرمز من ملوك الكبار وكان متوجا أسره غالب بن عبد الله الأسدي فدفعه إلى سعد ورجع إلى الحرب وطلب البراز أسوار منهم فبرز إليه عمرو بن معدي كرب فأخذه وجلده الأرض فذبحه وسلب سواريه ومنطقته ثم حملوا الفيلة على المسلمين وأمالوها على بجيلة فثقلت عليهم فأرسل سعد إلى بني أسد أن يدفعوا عنهم فجاءه طليحة بن خويلد وحمل بن مالك فردوا الفيلة وخرج على طليحة عظيم منهم فقتله طليحة وعير الأشعث بن قيس كندة بما يفعله بنو أسد فاستشاطوا ونهدوا معه فأزلوا الذين بإزائهم وحين رأى الفرس ما لقي الناس والفيلة من بني أسد حملوا عليهم جميعا وفيهم ذو الحاجب والجالنوس.وكبر سعد الرابعة فزحف المسلمون وثبت بنو أسد ودارت رحى الحرب عليهم وحملت الفيول على الميمنة والميسرة ونفرت خيول المسلمين منها فأرسل سعد إلى عاصم بن عمر هل من حيلة لهذه الفيلة؟ فبعث الرماة يرشقونها بالنبل واشتد لردها آخرون يقطعون الوضن وخرج عاصم بجمعهم ورحى الحرب على أسد واشتد عواء الفيلة ووقعت الصناديق فهلك أصحابها ونفس عن أسد أن أصيب منهم خمسائة وردوا فارس إلى مواقفهم ثم اقتتلوا إلى هدء من الليل وكان هذا اليوم الأول وهو يوم الرماة ولما أصبح دفن القتلى وأسلم الجرحى إلى نساء يقمن عليهم وإذا بنواصي الخيل طالعة من الشام وكان عمر بعد فتح دمشق عزل خالد بن الوليد عن جند العراق وأمر أبا عبيدة أن يؤمر عليهم هاشم بن عتبة يردهم إلى العراق فخرج بهم هاشم وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو فقام القعقاع على الناس صبيحة ذلك اليوم يوم أغواث وقد عهد إلى أصحابه أن يقطعوا أعشارا بين كل عشرين مد البصر وكانوا ألفا فسلم على الناس وبشرهم بالجنود وعرضهم على القتال وطلب البراز فخرج إليه ذو الحاجب فعرفه القعقاع ونادى بالثأر لأصحاب الجسر وتضاربا فقتله القعقاع وسر الناس بقتله ووهنت الأعاجم لذلك ثم طلب البراز فخرج إليه الفيرزان والبندوان.وأكثر المسلمون القتل في الفرس وأخذوا الفيلة عن القتال لأن نوابتها تكسرت بالأمس فاستأنفوا حملها وجعل القعقاع إبلا وجعل عليها البراقع وأركبها عشرة عشرة وأطاف عليها الخيول تحملها وحملها على خيل الفرس فنفرت منها وركبتهم خيول المسلمين ولقي الفرس من الإبل أعظم مما لقي المسلمون من الفيلة وبرز القعقاع يومئذ في ثلاثين فارسا في ثلاثين حملة فقتلهم كان آخرهم بزرجمهر الهمداذي وبارز الأعور بن قطنة شهريار سجستان فقتل كل واحد منهما صاحبه.ولما انتصف النهار تزاحف الناس فاقتتلوا إلى انتصاف الليل وقتلوا عامة أعلام فارس ثم أصبحوا في اليوم الثالث على مواقفهم بين الصفين ومن المسلمين ألفا جريح وقتيل ومن المشركين عشرة آلاف فدفن المسلمون موتاهم وأسلموا الجرحى إلى النساء ووكلوا النساء والصبيان بحفر القبور وبقي قتلى المشركين بين الصفين وبات القعقاع يسرب أصحابه إلى حيث فارقهم بالأمس وأوصاهم إذا طلعت الشمس أن يقبلوا مائة مائة يجدد بذلك الناس وجاء بينهما يلحق هاشم بن عتبة فلما ذر قرن الشمس أقبل أصحاب القعقاع فتقدموا والمسلمون يكبرون فتزاحفت الكتائب طعنا وهربا وما جاء آخر أصحاب القعقاع حتى لحق هاشم فعبى أصحابه سبعين سبعين وكان فيهم قيس بن المكشوح فلما خالط القلب كبر وكبر المسلمون ثم كبر فخرق الصفوف إلى العتيق ثم عاد وقد أصبح الفرس على مواقفهم وأعادوا الصناديق على الفيلة وأحدقوا الرجال بها يحمونها أن تقطع وضنها وأقام الفرسان يحمون الرجالة فلم تنفر خيل المسلمين منها وكان هذا اليوم يوم عماس وكان شديدا وإلا أن الطائفتين فيه سواء وأبلى فيه قيس بن المكشوح وعمرو بن معدي كرب زحفت الفيلة وفرقت بين الكتائب وأرسل سعد إلى القعقاع وعاصم أن أكفياني الأبيض وكان بازائهما وإلى محمل والذميل أن أكفياني الأجرب وكان بازائهما فحملوا على الفيلين فقتل الأبيض ومن كان عليه وقطع مشفر الأجراب وفقئت عينه وضرب سائسه الذميل بالطيرزين فأفلت جريحا وتحير الأجرب بن الطائفتين وألقى نفسه في العتيق واتبعته الفيلة وخرقت صفوف الأعاجم في إثره وقصدت المدائن بثوابتها وهلك جميع من فيها وخلص المسلمون والفرس فاختلفوا على سواء إلى المساء واقتتلوا بقية ليلتهم وتسمى ليلة الهرير.فأرسل سعد طليحة وعمرا إلى مخاضة أسفل السكر يقومون عليها خشية أن يؤتى المسلمون منها فتشاوروا أن يأتوا الأعاجم من خلفهم فجاء طليحة وراء العسكر وكبر فارتاع أهل فارس فأغار عمرو أسفل المخاضة ورجع وزاحفهم الناس دون إذن سعد وأول من زاحفهم من الناس دون إذن سعد زاحفهم القعقاع وقومه فحمل عليهم ثم حمل بنو أسد ثم النجع ثم بجلية ثم كندة وسعد يقول في كل واحدة اللهم إغفر لهم وانصرهم وقد كان قال لهم إذا كبرت ثلاثا فاحملوا فلما كبر الثالثة لحق الناس بعضهم بعضا صلاة العشاء واختلطوا وصليل الحديد كصوت القرن إلى الصباح.وركدت الحرب وانقطعت الأخبار والأصوات عن سعد ورستم وأقبل سعد على الدعاء وسمع نصف الليل صوت القعقاع في جماعة من الرؤساء إلى رستم حتى خالطوا صفه مع الصبح فحمل الناس من كل جهة على من يليهم واقتتلوا إلى قائم ظهيرة فناجز الفيرزان والهرمزان بعض الشيء وانفرج القلب وهبت ريح عاصف فقلبت طيارة رستم عن سريره فهوت في العتيق وانتهى القعقاع ومن معه إلى السرير وقد قام رستم عنه فاستظل في ظل بغل وحمله وضرب هلال بن علقمة الحمل فوقع أحد العدلين على رستم فكسر ظهره وضربه هلال ضربة نفحت مسكا وضرب نحو العتيق فرمى بنفسه فيه فاقتحم هلال وجره برجله فقتله وصعد السرير وقال: قتلت رستم ورب الكعبة إلي إلي فأطافوا به وكبروا وقيل إن هلالا لما قصد رستم رماه بسهم فأثبت قدمه بالركاب ثم حمل عليه فقتله واحتز رأسه ونادى في الناس قتلت رستم.فانهزم قلب المشركين وقام الجالنوس على الردم ونادى الفرس إلى العبور وتهافت المقترنون بالسلاسل في العتيق وكانوا ثلاثين فهلكوا وأخذ ضرار بن الخطاب راية الفرس العظيمة وهي درفش كابيان فعوض منها ثلاثين ألفا وكانت قيمتها ألف ألف ومائة ألف ألف وقتل ذلك اليوم من الأعاجم عشرة آلاف في المعركة وقتل من المشركين في ذلك اليوم ستة آلاف دفنوا بالخندق سوى ألفين وخمسمائة قتلوا ليلة الهرير وجمع من الأسلاب والأموال ما لم يجمع قبله ولا بعده مثله ونفل سعد هلال بن علقمة سلب رستم وأمر القعقاع وشرجبيل باتباع العدو وقد كان خرج زهرة بن حيوة قبلها في آثارهم فلحق الجالنوس يجمع المنهزمين فقتله وأخذ سلبه فتوقف سعد من عطائه وكتب إلى عمر فكتب إليه: تعمد إلى مثل زهرة وقد صلى بمثل ما صلى به وقد بقي عليك من حربك ما بقي تفسد قلبه أمض له سلبه وفضله على أصحابه في العطاء بخمسمائة.ولحق سلمان بن ربيعة الباهلي وأخذه عبد الرحمن بطائفة من الفرس قد استماتوا فقتلوهم أجمعين واستمات بعد الهزيمة بضعة وثلاثون رئيسا من المسلمين فقتلوهم أجمعين وكان ممن هرب من أمراء الفرس الهرمزان وأهودوزاد بيهس وقارن وممن استمات فقتل شهريار بن كبارا وأسر المدمرون والفردان الأهوازي وحشرشوم الهمداني وكتب سعد إلى عمر بالفتح وبمن أصيب من المسلمين وكان عمر يسأل الركبان حين يصبح إلى انتصاف النهار ثم يرجع إلى أهله فلما ألفى البشير قال: من أين؟ فأخبره فقال: حدثني فقال: هزم الله المشركين ففرح بذلك وأقام المسلمون بالقادسية ينتظرون كتاب عمر إلى أن وصلهم بالإقامة وكانت وقعة القادسية سنة أربع عشرة وقيل خمس عشرة وقيل ست عشرة.
|