الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي
.تفسير الآية رقم (42): {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)}وفي اللغة ألفاظ مفردة، مثال: (سجنجل) وتفتح القاموس فتجد معناها (البلور)، وكذلك الصفا والمروة؛ وعندما تبحث في القاموس عن كلمة (مروة) تعرف أن معنى اللفظ بعيد عن النسبة، فأول عمل للغة أن تعرف معنى الألفاظ بعيداً عن نسبتها. ومهمة القاموس أن يشرح لك معنى اللفظ بعيداً عن النسبة دون إثبات أو نفي، مثال ذلك (الجو) معناها هو ما يحيط بك من هواء أو غير ذلك، لكن القاموس لا يشرح هل الجو مُكفهر أو صافٍ أو باردٌ.وإن تقدمنا مرحلة أخرى وأخذنا اللفظ لنصنع له نسبته، كأن نقول: (الجو صحو)، هنا ننتقل من فهم معنى كلمة (جَوّ)، إلى أننا نسبنا الصحو إليه. والكلام المفيد يأتي في النِسب. ولا تأتي النِسب إلا بعد معرفة معاني الألفاظ. والنِسب تعني أن ننسب شيئا إلى شيء، كأن نقول: (محمد مجتهد) هنا نسبنا لمحمد الاجتهاد، وذلك بعد أن عرفنا معنى كلمة (محمد) بمفردها، ومعنى (مجتهد) بمفردها.إذن الكلام المفيد يتأتى في النسب. وقد تكون الإفادة بضميمة كلمة إلى ما سبقها، فعندما يسألك إنسان: (من عندك)؟ فتقول: (محمد)؛ هذا القول أفاد؛ لأنه انضم إلى كلمة أخرى فصار المعنى: (محمد عندي).إذن هناك نسب، والنسب هي أن تنسب حكماً إلى شيء إما إيجابا وإما نفياً.والنسبة تنقسم إلى قسمين؛ نسبة واقعة، ونسبة غير واقعة. وإن كانت النسبة واقعة فهل تعتقدها؟ وهل تستطيع أن تقيم عليها دليلاً؟ إن كانت النسبة الواقعة ومقام عليها الدليل تكون علماً. وإن كانت نسبة وواقعة وأنت تعتقدها ولا تستطيع أن تدلل عليها، فهذا تقليد، مثل الطفل الذي يقلد أباه فيقول: (الله أَحد)، والطفل في هذه الحالة لا يستطيع أن يقيم على هذه النسبة دليلاً.إن العلم أعلى مراتب النسب لأنه نسبة معتقدة وواقعة وعليها دليل. أما إذا كانت نسبة معتقدة وغير واقعة، فهذا هو الجهل؛ لأن الجاهل هو الذي يعرف الشيء على غير وجهه الصحيح. أما الأمي فهو الذي لا يعرف شيئا ونجد صعوبة في الشرح للجاهل، مثال ذلك الذي يقول الأرض مبسوطة ويدافع عنها، إنه يقول نسبة يعتقدها، ولكنها غير الواقع لأنها كروية.والجهل- إذن- أن تعرف نسبة تعتقدها وهي غير واقعة. ولا يرهق الدنيا غير الجاهل، لا الأمي؛ لأن الأمي له عقل فارغ يكفي أن تقول له الحقيقة فيصدقها، أما الجاهل فيحتاج إلى أن نخلع من أفكاره الفكر الخاطئ ونضع له الفكر الصحيح.أما إن كانت النسبة غير واقعة. فالنفي فيها يساوي الإثبات، وهذا هو الشك. وإن كانت هناك نسبة راجحة فهو الظن. والنسبة المرجوحة هي الوهم. إذن هناك عدد من النسب: نسبة علم، نسبة تقليد، نسبة جهل، نسبة شك، نسبة ظن، نسبة وهم. وعلى ذلك يكون الكذب نسبة غير واقعة، فإن كنت تعتقدها فأنت من الجاهلين.ويقابل الكذب الصدق، وعندما يقول الحق: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ}. فالنسبة هنا غير مطابقة للواقع. ويقتنص الملبِّسون بعض النسب التي تأتي في بعض من أسلوب القرآن ويقولون: في القرآن كلام لو مَحَّصناه لوجدناه غير دقيق. مثال ذلك: {إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} [المنافقون: 1].كلام المنافقين هنا قد طابق كلام الله، ولكن لماذا يقول الحق من بعد ذلك: {والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1].النسبة واحدة، لكن الله يكذب المنافقين. وإن فطنا إلى قول الله حكاية عنهم: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} [المنافقون: 1].أي أن الله يُكذِّب شهادتهم، لأن محمداً رسول الله بالفعل، ولكنهم كاذبون لأنهم لا يعتقدون ذلك، فالشهادة هي ما يوافق اللسان ما في القلب.إذن قوله الحق: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} أي أن عملهم الاستماع للكذب، وأكل السُّحت وكأنهم يرهقون إن أكلوا حلالاً، وأكَّال صيغة للمبالغة؛ وتكون إما في الحدث، وإما في تكرار أنواع الحدث. فيقال: (فلان أكال)، و(فلان أكول) وهو الإنسان الذي يأكل بشراهة أو يأكل كثيراً، والمبالغة- إذن- إما أن تكون في الحدث وإما في تكرير الحدث.{أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} ومادة (سَحت) تعني (استأصل ومحا)، ولكنها تزيد أنها استأصلته استئصالاً لم يبق له أثراً وتعدى الاستئصال إلى ظرفه. مثال ذلك عند ظهور بقعة من زيت أو طعام على ثوب، نستطيع استئصال البقعة، ونستطيع المبالغة في استصالها إلى أن تنحت من الثوب. والسُّحت استئصال مبالغ فيه لدرجة الجوْر على الأصل قليلاً. أي يستأصل الذي جاء ومعه بعض من الأصل أيضاً؛ لذلك جاء المفسرون إلى هذا المعنى في شرح الرِّبا لأن الله يصفه بالقول: {يَمْحَقُ الله الربا} [البقرة: 276].والربا في مفهومنا أنه زيادة، ولكن الحق أوضح لنا أنه ليس بزيادة؛ لأنه يَدْخل ويستأصل ويأكل ويكحت أصل المال. وظاهر الرِّبا وباطنه محق واستئصال.أما الزكاة فظاهرها نقص، ولكنها نماء، وبذلك نرى اختلاف مقاييس الخلق عن مقاييس الحق. والمثل الواضح: أن النفس تلتفت دائماً إلى رزق الإيجاب، ولا تلتفت إلى رزق السلب. فرجل راتبه خمسمائة جنيه، وآخر راتبه مائة جنيه، صاحب الراتب البالغ الخمسمائة فتح الله عليه أبواباً تحتاج إلى ألفٍ من الجنيهات، والذي يأخذ مائة جنيه سَدَّ الحق عنه أبواباً لا تأخذ منه كل راتبه بل يتبقى له عشرة جنيهات.هناك- إذن- رزق إيجاب يزيد الدخل، ورزق سلب أن يسلب الحق عنك المصارف في المصائب والمهالك ويبارك لك فيما أعطاك.والسًّحْت هو كل شيء تأخذه من غير طريق الحلال؛ كالرشوة أو الربا أو السرقة أو الاختلاس أو الخطف. وكل أنواع المقامرة والمراهنة، كل ذلك اسمه سُحْت.{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} وهذا القول دليل على أن أُذَنَهُم اعتادت سماع الكذب ويقبلون عليه. وعندما نقول نحن في الصلاة: (سمع الله لمن حمده)، أي أننا ندعو الله أن يقبل الحمد. وهم سماعون للكذب أي يقبلون الكذب. والسماع جارحة، والأكل بناء ما به الجارحة لأنه مقوم لها. مثلما يأكل لينمو، وإن كان ناضجاً يحفظ له الطاقة والقدرة.فالنّمو- إذن- معناه أن يدخل جوفه أكثر مما يخرج منه. وبعد فترة يدخل إلى جسمه على قدر ما يخرج منه، ثم الشيخوخة نجد فيها أن ما يخرج أكثر مما يدخل. وماداموا سماعين للكذب أكَّالين للسُّحت، فهم في بوارٍ دائم، لأن أكل السُّحْت حيثية من حيثيات الاستماع المصدِّق للكذب؛ لأنهم قد بنوا ذرات أجسادهم من حرام، فكيف ترفض آذانهم الكذب؟ بل آذانهم تستدعي الكذب، وألسنتهم تحترفه. وعيونهم تستدعي المحارم، وأيديهم تستدعي السرقة، إنها الأبعاض التي بناها أصحابها من حرام.ولم يقل عنهم: (سامعون)، بل قال: (سماعون) أي جعلوا صناعتهم أن يتسمعوا، وهم الجواسيس، وإلا فإذا كان الأمر غير ذلك لكان كل من سمع كذبا يُعَد من هؤلاء. والقول مقصود به من جعل السماع صنعة له، ولا يجعل إنسان السماع صنعة له إلا إذا كان عينا لغيره، والعين للغير يتلصص على أمانة المجالس، ولكل مجلس أمانة. فإذا ما حضر إنسان مجلسا فليس له أن ينقل ما في ذلك المجلس إلى غيره إلا أن يكون ذلك هو صناعته، وتلك هي مهمته.{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} وهنا قضيتان. فعل السماع للكذب سببه أكل السُّحت، أم أكل السُّحت سببه السماع للكذب؟إن الحق سبحانه وتعالى حينما خلق الإنسان من طينة الأرض وصوره على شكل آدم نفخ فيه من روحه، وحين صوره من طينة الأرض جعل كل مقومات حركة حياته من طبيعة طينة الأرض، فإذا ما أخذ الإنسان شيئاً من حِلٍّ، اعتدلت الذرات في نفسه على الهيئة التي خلقها الله. وإن تدخل فيها بحرام جعل في الذرات اختلالا تكوينيا. وهذا الاختلال التكويني هو الذي جعل آكل الحرام سماعا للكذب. ولو لم يكن فيه ذلك الاختلال التكويني الذي صنعه بنفسه لما سمع الكذب أبداً.أو أنه عندما أكل السُّحْت صار سماعا للكذب. أو سمع كذبا فصار أكَّالاً للسُّحْت. ولنلاحظ أن الحق لم يقل: (آكل للسُّحْت)، ولم يقل: (سامع للكذب)؛ ولكنه قال: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} أي أنهم تعودوا سماع الكذب وتعودوا أكل السُّحت، فالواحد منهم أخذ حراما من أول الأمر، وعندما صار أكالا وسمَّاعًا للكذب في آن واحد، اختلت ذرَّات تكوينه، ولم يعد في أعماقه نور ليرفض الكذب.بل أقبل عليه، ويغريه الكذب ثانية بأن يأكل السُّحْت، والأمر دائر بين سماع كذب وأكل سحت.وقضية الكذب هي قضية صراع الباطل مع الحق. ومادام الكذب غير مطابق لوازع كوني أو لواقع منهجي تكليفي فهذا يصنع خللاً في الكون. وحينما أراد الحق سبحانه وتعالى أن يضرب لنا المثل في ذلك جاء بالمثل في أمرٍ حسي حتى نراه جميعا: {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17].أي أن كل وادٍ تحمَّل على قدر طاقته. ومن بعد ذلك يقول الحق: {فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً} [الرعد: 17].فقبل أن ينزل السيل من على الجبال إلى الوديان، يأخذ كل الأشياء التي تصادفه على الجبل من آثار الرياح، ومن أوراق النبات، فينزله إلى الوادي، وتلك هي الأشياء التي تصنع الزِّبَد ونقول عنه في لغتنا العامية: (الرَّغاوي). {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً} [الرعد: 17].و(رابياً) أي غائماً وعاليا وطافيا فوق المياه، لماذا؟ لأنه مادام زبداً ففيه فقاقيع هواء تجعل حجمه أكبر من وزنه. وتصبح كثافته أقل من المياه؛ لذلك يطفو فوقها. وماذا يكون الموقف بعد ذلك؟ {فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ} [الرعد: 17].ومن العجيب أنه سبحانه جعل المثلين في الماء والمضاد له وهو النار، فالماء يأتي بزبد وغثاء يطفو على المياه، وكذلك النار حين ندخل فيها المعادن. ومن رأى الحداد ينفخ في كيره على قطعة من الحديد يرى الخبث، والمواد الغريبة الممتزجة بالحديد والتي تنفصل أثناء الصهر عن الحديد ليصير صافيا. إذن فهناك زبد في الحديد تخرجه النار عند صهره، وزبد يطفو فوق الماء. {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل} [الرعد: 17].ولهذا نرى الباطل وقد أتى عليه زمن ليطفو فوق السطح، ويخرج الخَبَث طافيا على أصيل الحديد. لكن أيظل الباطل كذلك؟ يُطمئِنُنا الحق أنه يحمي الحق فيقول: {فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض} [الرعد: 17].وحين نرى الباطل وقد طفا على السطح نفاجأ بعد وقت من الزمن أن الزبد ينتهي صافياً. فإذا رأينا الباطل مرة يعلو، فلنعلم أنه لا بقاء لهذا العُلو؛ لأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض.ولماذا لا يُعلن الحق عن نفسه من البداية؟ أراد الله ذلك ليجعل الباطل من جنود الحق، ولو لم يَعَض الباطل الناس ويُتعبهم أيتجهون إلى الحق؟ لا؛ لذلك كان لابد أن يأتي إليهم الباطل الناس ويُتعبهم ليبحثوا عن الحق.وهكذا نرى الباطل كجندي من جنود الحق. وضربنا المثل من قبل وعرفنا أن الألم عند المريض من جنود العافية، فلولا ذلك الألم لاستشرى الداء دون أن يشعر المريض، فكأن الألم يلفته إلى موضع الداء ويدفعه للبحث عن وسائل الشفاء. وبذلك يتعرف على حلاوة العافية.إذن فالباطل من جنود الحق والألم من جنود الشفاء؛ لأن أمور الحياة لو سارت على وتيرة واحدة لما عرف الإنسان أوجه الحياة، فلو لم يأتِ الألم إلى المريض لأكله المرض. فإذا كان الألم من جنود الشفاء، فالكفر أيضاً من جنود الإيمان؛ لأننا عندما نرى الكُفر ونشهد آثار الكُفر فساداً في المجتمع، نتساءل: ما الذي يخلِّصنا من ذلك؟ ونعرف أن الذي يخلصنا من الفساد هو الإيمان.وأُكرِّر دائماً: كلمة الكُفر بذاتها هي الدليل الأول على الإيمان؛ لأن الكُفر هو السَّتْر، ومادام الكفر هو السَّتر، والكافر يستر الإيمان، وظهور الكفر على السطح دليل وجود الإيمان في الأصل.ومادام الحق قد قال: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} فلابد بعد هذا التشخيص أن يرسم لرسوله أسلوب التعامل معهم: {فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً}. فأنت يا رسول الله بالخيار بين أن تحكم بينهم في القضية التي جاءوا من أجلها أو تعرض عنهم، فليس عليك تجاههم إلزام ما؛ لأنهم السماعون للكذب الأكَّالون للسُّحْت. وهم حينما يأتونك يا رسول الله طلباً لحكم إنما يفعلون ذلك لا رغبة في معرفة الحق ولا هم يلتمسون العدل. بل جاءوك مظنة تيسير امر الباطل وأكل السُّحت لنفوسهم. وقد طلبوا الحكم في قضية الزِّنا وعندهم في التوراة كان الرَّجم عقاباً للزنا.لقد ذهبوا لرسول الله لأنهم أرادوا أن يستروا حكم الزِّنا في التوراة، والاكتفاء بالجلد وتسويد وجه الزاني وركوبه حماراً في الوضع العكسي بحيث يكون وجهه في اتجاه الذيل وقفاه في اتجاه رأس الحمار، وأن يطوفوا بالزاني وهو على هذه الهيئة حول البلدة. ولما لم يسمعوا ذلك الحكم من الرسول ابتعدوا عنه. إذن هم يطلبون التخفيف لأنهم كانوا سماعين للكذب واكَّالين للسُّحت. ولأن الذي سيطبق عليه الحد رجل له جاه وله مكانة وهم يريدون التقرب إليه بتخفيف العقاب عنه. وهل هناك تعارض بين قول الحق في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها وبين قول الحق: {فاحكم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ الله} [المائدة: 48].لا تعارض. والبعض يقول: إن في قوله الحق: {فاحكم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ الله} إلزاماً. ونقول: المعنى الواضح هو أنك يا رسول الله، إن رجحت جانب أن تحكم وتقضي بينهم فاحكم بما أنزل الله، ولننظر إلى الأداء القرآني لأن المتكلم إله وحكيم: {فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ}.ونلحظ أن الأمر هنا جاء بطريقة تؤكد أن الإعراض ممكن؛ لأنهم أرادوا أن يحكم لهم رسول الله على هواهم، وطمأنه الله بأنه سيحميه من شرهم إن أعرض عنهم، وكأن الحق يقول لرسوله: إياك أن تفكر حين تعرض عنهم أنهم سينالونك بالشر لأنك لم تحقق لهم التيسير الذي ابتغوه عندك {وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً} وإياك أن تجعل الضرر منهم مُرجِّحاً للحكم؛ فأنت بالخيار؛ إما أن تحكم وإما أن تعرض. ولا تخش من شرهم لأن الذي أرسلك يحميك.{وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ بالقسط إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} والحكم في هذه الآية يأتي كالقوس في البداية وفي النهاية، والحكم بينهم يكون بالقسط؛ أي بالعدل. والعدل ليس كما يراه الهوى ولكن حسب ما أنزل الله. أي أن الله يحب الذين يزيلون الجوْر. ومادام الحكم بالعدل يأتي ليزيل الجور، فكأنه كان من قبل جوْرٌ مُقنن؛ إذن ف (أقْسَط) أي أزال جوراً مقنناً وأعاد توازن الميزان ليعود الانسجام بين الإنسان والكون. والكون كله يسير بميزان؛ الأرض تدور والشمس تؤدي مهمتها، ولا كوكب يصطدم بكوكب آخر: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40].فإن أردتم أن تستقيم لكم أموركم الاختيارية، فانظروا إلى الأمور الإجبارية التي حولكم، فإن كانت بنظام وميزان واعتدلت الأمور، اعدلوا- إذن- في إدارة شئونكم حتى تنسجموا كما انسجم الكون، ولذلك نقرأ قوله تعالى: {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ والنجم والشجر يَسْجُدَانِ والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان} [الرحمن: 5-8].أمامكم الموازين العليا في الكون، ولا تستطيعون إفسادها لأنها تسير بنظام لا دخل لكم به؛ لذلك عليكم أن تتعلموا منها وأن تديروا أمور حياتكم بميزان حتى تستقيم أموركم الاختيارية. {أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان} [الرحمن: 8-9].فإن رأيت حولك كونا غير مُضطرب، وغير مُتصادم، ويؤدي حركته دون تعارض أو تصادم، فافهم أنه قائم على ميزان الحق، ووضع سبحانه لك ميزاناً في الأمور الاختيارية، والمرجحات الاختيارية هي أحكام التكليف من الله، فإن أردت أن تستقيم لك الأمور الاختيارية فسر بها على الميزان الذي وضعه الله.ثم يلفتنا الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك بقوله: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ...}.
|