الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: جامع الرسائل **
فإن قيل: ما منشأ هذا النزاع والاشتباه والتفريق والاختلاف قيل: منشؤه هو الكلام الذي ذمه السلف وعابوه وهو الكلام المشتبه المشتمل على حق وباطل فيه ما يوافق العقل والسمع وفيه ما يخالف العقل والسمع فيأخذ هؤلاء جانب النفي المشتمل على نفي الحق والباطل وهؤلاء جانب الإثبات المشتمل على إثبات حق وباطل وجماعه هو الكلام المخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف فكل كلام خالف ذلك فهو باطل ولا يخالف ذلك إلا كلام مخالف للعقل والسمع. وذلك أنه لما تناظروا في مسألة حدوث العالم وإثبات الصانع استدلت الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من طوائف الكلام على بأن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث ثم إن المستدلين بذلك على حدوث الأجسام قالوا إن الأجسام لا تخلو عن الحوادث وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث ثم تنوعت طرقهم في الأدلة في المسألة المتقدمة فتارة يثبتونها بان الأجسام لا تخلو عن الحركة والسكون وهما حادثان وتارة يثبتونها بأن الأجسام لا تخلو عن الاجتماع والافتراق وهما حادثان وتارة يثبتونها بأن الأجسام لا تخلو عن الأكوان الأربعة: الاجتماع والافتراق والحركة والسكون وهي حادثة وهذه طرق المعتزلة ومن وافقهم على أن الأجسام قد تخلو عن بعض أنواع الأعراض وتارة يثبتونها بأن الجسم لا يخلو من كل جنس من الأعراض عن عرض منه ويقولون إن الأعراض يمتنع بقاؤها لأن العرض لا يبقى زمانين وهي الطريقة التي اختارها الأمدي وزيف ما سواها وذكر أن جمهور أصحابه اعتمدوا عليها وقد وافقهم عليها طائفة من الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة كالقاضي أبي يعلى والجويني والباجي وغيرهم. وأما الهشامية والكرامية وغيرهما من الطوائف الذين لا يقولون بحدوث كل جسم يقولون أن القديم تقوم به الحوادث فهؤلاء إذا قالوا بأن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث كما في قول الكرامية وغيرهم موافقة للمعتزلة في هذا الأصل فإنهم قالوا أن الجسم القديم لا يخلو عن الحوادث بخلاف الأجسام المحدثة. والناس متنازعون في السكون هل هو أمر وجودي أو عدمي فمن قال إنه وجودي قال الجسم الذي لا يخلو عن الحركة والسكون فإذا انتفت عنه الحركة فالسكون به وجودي وهذا قول من يحتج بتعاقب الحركة والسكون على حدوث المتصف بذلك ومن قال إنه عدمي لم يلزم من عدم الحركة عن المحل ثبوت أن السكون وجودي فمن قال إنه تقوم به الحركة أو الحوادث بعد أن لم تكن مع قوله بامتناع تعاقب الحوادث كما هو في قول الكرامية. وغيرهم يقولون: إذا قامت به الحركة لم يعدم بقيامها سكون وجودي بلى ذلك عندهم بمنزلة قولهم مع المعتزلة والأشعرية وغيرهم فإنه يفعل بعد أن لم يكن فاعلاً ولا يقولون إن عدم الفعل أمر وجودي كذلك الحركة عند هؤلاء. وكان كثير من أهل الكلام يقولون ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث أو ما لا يسبق الحوادث فهو حادث بناءً على أن هذه مقدمة ظاهرة بأن ما لا يسبق الحادث فلا بد أن يقارنه أو يكون بعده وقارن الحوادث فهو حادث وما كان بعده فهو حادث وهذا الكلام مجمل فإنه إذا أريد به ما لا يخلو عن الحوادث المعينة أو ما لا يسبق الحادث المعين فهو حق بلا ريب ولا نزاع فيه وكذلك إذا أريد بالحادث حكم ما له أول أو ما كان بعد العدم ونحو ذلك وأما إذا ما أريد الحوادث الأمور التي تكون شيئاً بعد شيء لا إلى أول وقيل إنه لا يخلو عنها وما لم يخل فهو حادث لم يكن ذلك ظاهراً ولا بيناً بل هذا المقام حار فيه كثير من الأفهام وكثر فيه النزاع والخصام ولهذا صار المستدلون بقولهم ما لا يخطر عن الحوادث فهو حادث يعلمون أن هذا الدليل لا يتم إلا إذا أثبتوا امتناع حوادث لا أول لها فذكروا في ذلك طرقاً قد تكلمنا عليها في غير هذا الموضع. وهذا الأصل تنازع الناس فيه على ثلاثة أقوال: فقيل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث وبامتناع حوادث لا أول لها مطلقاً وهذا قول المعتزلة ومن اتبعهم من الكرامية والأشعرية ومن دخل معهم من الفقهاء وغيرهم. وقيل: بل يجوز دوام الحوادث مطلقاً وليس كل ما يقارب حادثاً بعد حادث لا إلى أول يجوز أن يكون حادثاً بل يجوز أن يكون قديماً سواء كان واجباً بنفسه أو بغيره وربما عبر عنه بالعلة والمعلول والفاعلية ونحو ذلك وهذا قول الفلاسفة القائلين بقدم العالم والأفلاك كأرسطو وأتباعه ثامبطوس والإسكندر الأفرديوسي وبوملس والفارابي وابن سينا وأمثالهم وأما جمهور الفلاسفة المتقدمين على أرسطو فلم يكونوا يقولون بهذا وقيل بل إن كان الملتزم للحوادث ممكناً بنفسه وجب أن يكون حادثاً فإن كان واجباً بنفسه لم يجز أن يكن حادثاً وهذا قول أئمة أهل الملل وأساطين الفلاسفة وهو قول جماهير أهل الحديث. وصاحب هذا القول يقول ما لا يخلو عن الحوادث وهو ممكن بنفسه فهو حادث وما لا يخلو عن الحوادث وهو معلول أو مفعول أو مبتدع أو مصنوع فهو حادث لأنه إن كان مفعولاً ملتزماً للحوادث امتنع أن يكون قديماً فإن القديم المعلول لا يكون قديماً إلا إذا كان له موجب قديم بذاته يستلزم معلوله بحيث يكون معه أزلياً لا يتقدم عنه وهذا ممتنع فإن من استلزم الحوادث يمتنع أن يكون فاعله موجباً بذاته يستلزم معلوله في الأزل فإن الحوادث المتعاقبة شيئاً بعد شيء لا يكون مجموعها في الأول ولا يكون شيء منها أزلياً بل الأزلي هو ذاتها واحد بعد واحد الموجب بذاته الملتزم لمعلوله في الأزل لا يكون معلوله شيئاً بعد شيء سواء كان صادراً عنه بواسطة أو بغير واسطة فإن ما كان واحداً بعد واحد يكون متعاقباً حادثاً شيئاً بعد شيء فيمتنع أن يكون معلولاً مقارباً لعلته في الأزل بخلاف ما إذا قيل أن المقارن لذلك هو الموجب بذاته الذي يفعل شيئاً بعد شيء فإنه على هذا لا يكون في الأزل موجباً بذاته ولا علة سابقة تامة فلا يكون معه في أول شيء من المخلوقات لكن فاعليته للمفعولات تكون شيئاً بعد شيء وكل مفعول يأخذ عنده وجود كمال فاعليته إذ المؤثر التام الملتزم لجميع شروط التأثير لا يتخلف عنه أثره إذ لو تخلف لم يكن مؤثراً تاماً فوجود الأثر يستلزم وجود المؤثر التام ووجود المؤثر التام يستلزم وجود الأثر فليس في الأول مؤثر تام فليس مع الله شيء من مخلوقاته قديم بقدمه والأول ليس هو حداً محدوداً ولا وقتاً معيناً بل كل بتقدير العقل من الغاية التي ينتهي إليها فالأول قبل ذلك كما هو قبل ما قدره فالأزل لا أول له كما أن الأبد لا آخر له وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: " أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء " فلو قيل أنه مؤثر تام في الأزل لشيء من الأشياء لزم أن يكون مقارناً له دائماً وامتنع أن يقوم بالأثر شيء من الحوداث لأن كل حادث يحدث لا يحدث إلا إذا وجد مؤثره التام عند حدوثه وإن كانت ذات المؤثر وموجودة قبل ذلك لكن لا بد من وجود شروط التأثير عند وجود الأثر والألزم الترجيح من غير مرجح وتخلف المعلول عن العلة التامة ووجود الممكن بدون المرجح التام وكل هذا ممتنع وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.
وإذا عرف الأصل الذي منه تفرع نزاع الناس فالذين قالوا ما لا يسبق الحوادث فهو حادث تنازعوا في كلام الله تعالى فقال كثير من هؤلاء: الكلام لا يكون إلا بمشيئته المتكلم وقدرته فيكون حادثاً كغيره من الحوادث ثم قالت طائفة والرب تعالى لا يقوم به الحوادث فيكون الكلام مخلوقاً في غيره فجعلوا كلامه مخلوقاً من المخلوقات ولم يفرقوا بين قال وفعل وقد علم أن المخلوقات لا يتصف بها الخالق فلا يتصف بما يخلقه في غيره من الألوان والأصوات والروائح والحركة العلم والقدرة والسمع والبصر فكيف يتصف بما يخلقه في غيره من الكلام ولو جاز ذلك لكان ما يخلقه من إنطاق الجمادات علامة ومن علم أنه خالق كلام العباد وأفعالهم يلزمه وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه وهذا قول الجهمية والنجارية والضرارية وغيرهم فإن هؤلاء يقولون إنه خالق أفعال العباد وكلامهم مع قولهم أن كلامه مخلوق فيلزمهم هذا وأما المعتزلة فلا يقولون أن الله تعالى خالق أفعال العباد لكن الحجة توجب القول بذلك وقالت طائفة: بل الكلام لا بد أن يقوم بالمتكلم ويمتنع أن لا يكون كلامه إلا مخلوقاً في غيره وهو متكلم بمشيئته وقدرته فيكون كلامه حادثاً بعد أن لم يكن لامتناع حوادث لا أول لها وهذا قول الكرامية وغيرهم وقال كثير من هؤلاء الذين يقولون بامتناع حوادث لا أول لها مطلقاً الكلام لازم لذات الرب كلزوم الحياة ليس هو متعلقاً بمشيئته وقدرته بل هو قديم كقدم الحياة إذ لو قلنا أنه بمشيئته وقدرته لزم أن يكون حادثاً وحينئذ يلزم أن يكون مخلوقاً أو قائماً بذاته فيلزمه قيام الحوادث به وذلك مستلزم لتسلسل الحوادث لأن القابل للشيء لا يخلو عنه أو عن ضده قالوا وتسلسل الحوادث ممتنع إذ التفريع على هذا الأصل. ثم إن هؤلاء لما قالوا بقدم عين الكلام تنازعوا فيه فقالت طائفة القديم لا يكون حروفاً ولا أصواتاً لأن تلك الحروف لا تكون كلاماً إلا إذا كانت متعاقبة والقديم لا يكون مسبوقاً بغيره فلو كانت الميم من " بسم " قديمة مع كونها مسبوقة بالسين والباء لكان القديم مسبوقاً بغيره وهذا ممتنع فيلزم أن يكون القديم هو المعنى فقط ولا يجوز تعدده لأنه لو تعدد لكان اختصاصه بقدر دون قدر ترجيحاً من غير مرجح وإلا كان لا ينافي لزوم وجود أعداد لا نهاية لها في آن واحد قالوا وهذا ممتنع فيلزم أن يكون معنى واحداً هو الأمر والخبر ومعنى التوراة والإنجيل والقرآن وهذا أصل قول الكلابية والأشعرية. وقالت طائفة من أهل الكلام والحديث والفقهاء وغيرهم بل هو حروف قديمة الأعيان لم تزل ولا تزال وهي مترتبة في ذاتها لا في وجودها كالحروف الموجودة في المصحف وليس بأصوات قديمة ومنهم من قال بل هو أيضاً أصوات قديمة ولم يفرق هؤلاء بين الحروف المنطوقة التي لا توجد إلا متعاقبة وبين الحروف المكتوبة التي توجد في وقت واحد كما يفرق بين الأصوات والمداد فإن الأصوات لا تبقى بخلاف المداد فإنه جسم يبقى فإذا كان الصوت لا يبقى امتنع أن يكون الصوت المعين قديماً لأن ما وجب قدمه لزم بقاؤه وامتنع عدمه. والحروف المكتوبة قد يراد بها نفس الشكل القائم بالمداد وما يقدر تقدير المداد كالشكل المصنوع في حجر وورق فإزالة بعض أجزائه. وقد يراد بالحروف نفس المداد وأما الحروف المنطوقة فقد يراد بها أيضاً الأصوات المقطعة المؤلفة وقد يراد بها حدود الأصوات وأطرافها كما يراد بالحروف في الجسم حده ومنتهاه فيقال حرف الرغيف وحرف الجبل ومنه قوله تعالى " فهؤلاء الخلقية والحادثية والاتحادية والإقرائية أصل قولهم إن ما لا يسبق الحوادث فهو حادث مطلقاً ومن قال بهذا الأصل فإنه يلزم بعض هذه الأقوال أو ما يشبه ذلك فإنه إما أن يجعل كلام الله حادثاً أو قديماً وإذا كان حادثاً إما أن يكون حادثاً في غيره وإما أن يكون حادثاً في ذاته وإذا كان قديماً فإما أن يكون القديم المعني فقط أو اللفظ أو كلاهما فإذا كان القديم هو المعنى فقط لزم أن لا يكون الكلام المقروء كلام الله ثم الكلام في ذلك المعنى قد عرف. وأما قدم اللفظ فقط فهذا لم يقل به أحد لكن من الناس من يقول أن الكلام القديم هو اللفظ وأما معناه فليس هو داخل في مسمى الكلام فهذا يقول الكلام القديم هو اللفظ فقط: إما الحروف المؤلفة وإما الحروف والأصوات لكنه يقول إن معناه قديم. وأما الفريق الثاني الذين قالوا بجواز حوادث لا أول لها مطلقاً وإن القديم يجوز أن يعتقب عليه الحوادث مطلقاً وإن كان ممكناً لا واجباً بنفسه فهؤلاء هم القائلون بقدم العالم كما يقولون بقدم هذه الأفلاك وأنها لم تزل ولا تزال معلولة لعلة قديمة أزلية لكن المنتسبون إلى الملل كابن سينا ونحوه منهم قالوا أنها صادرة عن الواجب بنفسه الموجب لها بذاته. وأما أرسطو وأتباعه فإنهم قالوا أن لها علة غاثية تتحرك للتشبه بها فهي تحركها كما يحرك المعشوق عاشقه ولم يثبتوا لها مبدعاً بذاته وإنما أثبت واجب الوجود بطريقة ابن سينا وأتباعه وحقيقة قول هؤلاء وجود الحوادث بلا محدث أصلاً أما على قول من جعل الأزل علة غائية للحركة فظاهر فإنه لا يلزم من ذلك أن يكون هو فاعلاً لها فقولهم في حركات الأفلاك نظير قول القدرية في حركة الحيوان وكل من الطائفتين قد تناقض قولهم فإن هؤلاء يقولون بأن فعل الحيوان صادر عن غيره لكون القدرة والداعي يستلزمان وجود الفعل والقدرة والداعي كلاهما من غير العبد فيقال لهم تقولون هكذا في حركة الفلك بقدرته وداعيه أنه يجب أن يكونا صادرين عن غيره وحينئذ فيكون الواجب بنفسه هو المحدث لتلك الحوادث شيئاً بعد شيء وإن كان ذلك بواسطة العقول وهذا القول الذي يقوله ابن سينا وأتباعه باطل أيضاً لأن الموجب بذاته القديم الذي يقارنه موجبه ومقتضاه يمتنع أن يصدر عنه حادث بواسطة أو بلا واسطة فإن صدور الحوادث عن العلة التامة الأزلية ممتنع بذاته وإذا قالوا بحركة توسطه قيل لهم إنما هو في حدوث الحركة فإن الحركة الحادثة شيئاً بعد شيء يمتنع أن يكون المقتضي لها علة تامة أزلية مستلزمة لمعلولها فإن ذلك جمع بين النقيضين إذا القول بمقارنة المعلول لعلته في الأزل ووجوده معها يناقض أن يتخلف المعلول أو شيء من المعلول عن الأزل فصار حقيقة قولهم أن الحوادث العلوية والسفلية لا يحدث بها. وهؤلاء يقولون كلام الله ما يفيض على النفوس الصافية كما أن ملائكة الله عندهم ما يتشكل فيها من الصور النورانية فلا يثبتون له كلاماً خارجاً عما في نفوس البشر ولا ملائكة خارجة عما في نفوسهم غير العقول العشرة والنفوس الفلكية التسعة مع أن أكثرهم يقولون أنها أعراض. وقد تبين في غير هذا الموضع أن ما يثبتونه من المجردات العقلية الحوادث التي هي العقول والنفوس والمواد والصور إنما وجودها في الأذهان لا في الأعيان. وأما الصنف الثالث الذين فرقوا بين الواجب والممكن والخالق والمخلوق والغني الذي لا يفتقر إلى غيره والفقير الذي لا قوام له إلا بالغير فقالوا: كل ما قارن الحوادث من الممكنات فهو حادث كائن بعد إن لم يكن وهو مخلوق مصنوع مربوب وأنه يمتنع أن يكون فيما هو فقير ممكن مربوب شيئاً قديماً فضلاً عن أن يقارن حوادث لا أول لها ولهذا كانت حركة الفلك دليلاً على حدوثه كما تقدم التنبيه عليه وأما الرب تعالى إذا قيل لم يزل متكلماً إذا شاء ولم يزل فاعلاً لم يكن دوام كونه متكلماً بمشيئته وقدرته ودوام كونه فاعلاً بمشيئته وقدرته ممتنعاً بل هذا هو الواجب لأن الكلام صفة كمال لا نقص فيه فالرب تعالى أحق أن يتصف به من كل موصوف بالكلام إذ كل كمال يثبت للمخلوق فالحق أولى به لأن القديم الواجب الخالق أحق بالكمال من المحدث الممكن المخلوق ولأن كل كمال يثبت للمخلوق فإنما هو من الخالق وما جاز اتصافه به من الكمال وجب له فإنه لو لم يجب له لكان إما ممتنعاً وهو محال بخلاف الفرض وإما ممكناً يتوقف ثبوته له على غيره والرب تعالى لا يحتاج في ثبوت كماله إلى غيره فإن معطي الكمال أحق بالكمال فيلزم أن يكون غيره أكمل منه أو كان غيره معطياً له الكمال وهذا ممتنع بل هو بنفسه المقدسة مستحق لصفات الكمال فلا يتوقف ثبوت كونه متكلماً على غيره فيجب ثبوت كونه متكلماً وأن ذلك لم يزل ولا يزال والمتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن يكون الكلام لازماً له بدون قدرته ومشيئته والذي لم يزل يتكلم إذا شاء أكمل ممن صار الكلام يمكنه بعد أن لم يكن الكلام ممكناً له. وحينئذ فكلامه قديم مع أنه يتكلم بمشيئته وقدرته وإن قيل أنه ينادي ويتكلم بصوت لا يلزم من ذلك قدم صوت معين وإذا كان قد تكلم بالقرآن والتوراة والإنجيل بمشيئته وقدرته لم يمتنع أن يتكلم بالباء قبل السين وإن كان نوع الباء والسين قديماً لم يستلزم أن تكون الباء المعينة والسين المعينة قديمة لما علم من القرآن من الفرق بين النوع والعين وهذا الفرق ثابت في الكلام والإرادة والسمع والبصر وغير ذلك من الصفات وبه تحل هذه الإشكالات الواردة على وحدة هذه الصفات وتعددها وقدمها وحدوثها وكذلك تزول به الإشكالات الواردة في أفعال الرب وقدمها وحدوثها وحدوث العالم. وإذا قيل أن حروف المعجم قديمة بمعنى النوع كان ذلك ممكناً بخلاف ما إذا قيل اللفظ الذي نطق به زيد وعمرو قديم فإن كان هذا مكابرة للحس والمتكلم يعلم أن حروف المعجم كانت موجودة قبل وجودها بنوعها وأما نفس الصوت المعين الذي قام به التقطيع والتأليف المعين فيعلم أن عينه لم تكن موجودة قبله. والمنقول عن الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة مطابق لهذا القول ولهذا أنكروا على من زعم أن حرفاً من حروف المعجم مخلوق وأنكروا على من قال لما خلق الله الحروف سجدت له إلا الألف فقالت: لا أسجد حتى أؤمر مع أن هذه الحكاية نقلت لأحمد عن سري السقطي وهو نقلها عن بكر بن خنيس العابد ولم يكن قصد أولئك الشيوخ بها إلا إثبات أن العبد الذي يتوقف فعله على الأمر والشرع هو أكمل من العبد الذي يعبد الله بغير شرع فإن كثيراً من العباد يعبدون الله بما تحبه قلوبهم وإن لم يكونوا مأمورين به فقصد أولئك الشيوخ أن من عبد الله بالأمر ولم يفعل شيئاً حتى يؤمر بهن فهو أفضل ممن عبده بما لم يؤمر به وذكروا هذه الحكاية الإسرائيلية شاهدة لذلك مع أن هذه لا إسناد لها ولا يثبت بها حكم ولكن الإسرائيليات إذا ذكرت على طريق الاستشهاد بها لما عرف صحته لم يكن بذكرها بأس. وقصدوا بذلك الحروف المكتوبة لأن الألف منتصبة وغيرها ليس كذلك مع أن هذا أمر اصطلاحي وخط غير العرب لا يماثل خط العرب ولم يكن قصد أولئك الأشياخ أن نفس الحروف المنطوقة التي هي مباني أسماء الله الحسنى وكتبه المنزلة مخلوقة ثابتة عن الله بل هذا شيء لعله لم يخطر بقلوبهم والحروف المنطوقة لا يقال فيها بأنها منتصبة ولا ساجدة فمن احتج بهذا من قولهم على أنهم يقولون أن الله لم يتكلم بالقرآن العربي ولا بالتوراة العبرية فقد قال عنهم ما لم يقولوه. وأما الإمام أحمد فإنه أنكر إطلاق هذا القول وما يفهم منه عند الإطلاق وهو أن نفس حروف المعجم مخلوقة كما نقل عنه أنه قال: ومن زعم أن حرفاً من حروف المعجم مخلوق فقد سلك طريقاً إلى البدعة قال إن ذلك مخلوق وقد قال أن القرآن مخلوق ولا ريب أنه من جعل نوع الحروف مخلوقاً ثابتاً عن الله كائناً بعد إن لم يكن لزم عنده أن يكون كلام الله العربي والعبري ونحوهما مخلوقاً وامتنع أن يكون الله متكلماً بكلامه الذي أنزله إلى عباده فلا يكون شيء من ذلك كلامه فطريقة الإمام أحمد وغيره من السلف مطابقة للقول الثابت الموافق لصريح المعقول وصحيح المنقول. وقال الشيخ الإمام أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرخي في كتابه الذي سماه الفصول في الأصول: سمعت الشيخ أبا حامد الإسفرايني يقول: مذهبي ومذهب الشافعي وفقهاء الأمصار أن القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال مخلوق فهو كافر والقرآن حمله جبريل عليه السلام مسموعاً من الله تعالى والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل والصحابة سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي نتلوه بألسنتنا وفيما بين الدفتين وما في صدورنا مسموعاً ومكتوباً ومحفوظاً وكل حرف منه كالباء والتاء كله كلام الله غير مخلوق ومن قال مخلوقاً فهو كافر عليه لعائن الله والملائكة والناس أجمعين. والكلام في هذا الأمور مبسوط في غير هذا الموضع وذكر ما يتعلق بهذا الباب من الكلام في سائر الصفات كالعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام في تعدد الصفات وإيجادها وقدمها وحدوثها أو قدم النوع دون الأعيان أو إثبات صفة كلية فإن عمومها متأولة بالأعيان مع تجدد كل معين من الأعيان أو غير ذلك مما قيل في هذا الباب فإن هذه أمور مشكلة ومحارات للعقول ولهذا اضطرب فيها طوائف من الناس ونظارهم والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم والله سبحانه أعلم.
|