الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)
.تفسير الآيات (25- 33): {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)}قوله: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا في نُفُوسِكُمْ} أي: بما في ضمائركم من الإخلاص وعدمه في كل الطاعات، ومن التوبة من الذنب الذي فرط منكم أو الإصرار عليه، ويندرج تحت هذا العموم ما في النفس من البرّ والعقوق اندراجاً أوّلياً؛ وقيل: إن الآية خاصة بما يجب للأبوين من البرّ، ويحرم على الأولاد من العقوق، والأوّل أولى اعتباراً بعموم اللفظ، فلا تخصصه دلالة السياق ولا تقيده {إِن تَكُونُواْ صالحين} قاصدين الصلاح، والتوبة من الذنب، والإخلاص للطاعة فلا يضركم ما وقع من الذنب الذي تبتم عنه. {فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُوراً} أي: الرجاعين عن الذنوب إلى التوبة، وعن عدم الإخلاص إلى محض الإخلاص. غفوراً لما فرط منهم من قول أو فعل أو اعتقاد، فمن تاب تاب الله عليه، ومن رجع إلى الله رجع الله إليه. ثم ذكر سبحانه التوصية بغير الوالدين من الأقارب بعد التوصية بهما فقال: {وَءاتِ ذَا القربى حَقَّهُ} والخطاب إما لرسول الله صلى الله عليه وسلم تهييجاً وإلهاباً لغيره من الأمة، أو لكل من هو صالح لذلك من المكلفين كما في قوله: {وقضى رَبُّكَ} [الإسراء: 23] والمراد بذي القربى: ذو القرابة، وحقهم هو صلة الرحم التي أمر الله بها، وكرّر التوصية فيها. والخلاف بين أهل العلم في وجوب النفقة للقرابة، أو لبعضهم كالوالدين على الأولاد. والأولاد على الوالدين معروف، والذي ينبغي الاعتماد عليه وجوب صلتهم بما تبلغ إليه القدرة وحسبما يقتضيه الحال {والمساكين} معطوف على {ذا القربى} وفي هذا العطف دليل على أن المراد بالحق الحق المالي {وابن السبيل} معطوف على المسكين، والمعنى: وآت من اتصف بالمسكنة، أو بكونه من أبناء السبيل حقه.وقد تقدّم بيان حقيقة المسكين وابن السبيل في البقرة، وفي التوبة، والمراد في هذه الآية التصدّق عليهما بما بلغت إليه القدرة من صدقة النفل، أو مما فرضه الله لهما من صدقة الفرض، فإنهما من الأصناف الثمانية التي هي مصرف الزكاة. ثم لما أمر سبحانه بما أمر به ها هنا، نهى عن التبذير فقال: {وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا} التبذير: تفريق المال كما يفرّق البذر كيفما كان من غير تعمد لمواقعه، وهو الإسراف المذموم لمجاوزته للحدّ المستحسن شرعاً في الإنفاق، أو هو الإنفاق في غير الحق، وإن كان يسيراً. قال الشافعي: التبذير: إنفاق المال في غير حقه، ولا تبذير في عمل الخير. قال القرطبيّ بعد حكايته القول الشافعي هذا: وهذا قول الجمهور. قال أشهب عن مالك: التبذير هو أخذ المال من حقه، ووضعه في غير حقه، وهو الإسراف، وهو حرام لقوله: {إِنَّ المبذرين كَانُواْ إخوان الشياطين} فإن هذه الجملة تعليل للنهي عن التبذير، والمراد بالأخوة الممائلة التامة، وتجنب مماثلة الشيطان ولو في خصلة واحدة من خصاله واجب، فكيف فيما هو أعمّ من ذلك كما يدلّ عليه إطلاق المماثلة، والإسراف في الإنفاق من عمل الشيطان، فإذا فعله أحد من بني آدم فقد أطاع الشيطان واقتدى به {وَكَانَ الشيطان لِرَبّهِ كَفُورًا} أي: كثير الكفران عظيم التمرّد عن الحق، لأنه مع كفره لا يعمل إلاّ شراً، ولا يأمر إلاّ بعمل الشرّ، ولا يوسوس إلاّ بما لا خير فيه.وفي هذه الآية تسجيل على المبذرين بمماثلة الشياطين، ثم التسجيل على جنس الشيطان بأنه كفور، فاقتضى ذلك أن المنذر مماثل للشيطان، وكل مماثل للشيطان له حكم الشيطان، وكل شيطان كفور، فالمبذر كفور. {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} قد تقدّم قريباً أن أصل {إما} هذه مركب من (إن) الشرطية و(ما) الإبهامية، وأن دخول نون التأكيد على الشرط لمشابهته للنهي؛ أي: إن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل لأمر اضطرك إلى ذلك الإعراض {ابتغاء رَحْمَةٍ مّن رَّبّكَ} أي لفقد رزق من ربك، ولكنه أقام المسبب الذي هو ابتغاء رحمة الله مقام السبب الذي هو فقد الرزق، لأن فاقد الرزق مبتغٍ له، والمعنى: وإن أعرضت عنهم لفقد رزق من ربك ترجو أن يفتح الله به عليك {فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا} أي: قولاً سهلاً ليناً كالوعد الجميل أو الاعتذار المقبول. قال الكسائي: يسرت له القول أي: لينته. قال الفراء: معنى الآية إن تعرض عن السائل إضاقة وإعساراً {فقل لهم قولاً ميسوراً}: عدهم عدة حسنة. ويجوز أن يكون المعنى: وإن تعرض عنهم ولم تنفعهم لعدم استطاعتك فقل لهم قولاً ميسوراً، وليس المراد هنا الإعراض بالوجه. وفي هذه الآية تأديب من الله سبحانه لعباده إذا سألهم سائل ما ليس عندهم كيف يقولون. ربما يردّون، ولقد أحسن من قال:لما ذكر سبحانه أدب المنع بعد النهي عن التبذير بيّن أدب الإنفاق فقال: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} وهذا النهي يتناول كل مكلف، سواء كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم تعريضاً لأمته وتعليماً لهم، أو الخطاب لكل من يصلح له من المكلفين. والمراد: النهي للإنسان بأن يمسك إمساكاً يصير به مضيقاً على نفسه وعلى أهله، ولا يوسع في الإنفاق توسيعاً لا حاجة إليه، بحيث يكون به مسرفاً، فهو نهى عن جانبي الإفراط والتفريط. ويتحصل من ذلك مشروعية التوسط، وهو العدل الذي ندب الله إليه: وقد مثّل الله سبحانه في هذه الآية حال الشحيح بحال من كانت يده مغلولة إلى عنقه، بحيث لا يستطيع التصرّف بها، ومثّل حال من يجاوز الحدّ في التصرف بحال من يبسط يده بسطاً لا يتعلق بسببه فيها شيء مما تقبض الأيدي عليه، وفي هذا التصوير مبالغة بليغة. ثم بيّن سبحانه غائلة الطرفين المنهيّ عنهما فقال: {فَتَقْعُدَ مَلُومًا} عند الناس بسبب ما أنت عليه من الشح {مَّحْسُوراً} بسبب ما فعلته من الإسراف، أي: منقطعاً عن المقاصد بسبب الفقر، والمحسور في الأصل: المنقطع عن السير، من حسره السفر إذا بلغ منه، والبعير الحسير: هو الذي ذهبت قوّته فلا انبعاث به، ومنه قوله تعالى: {يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 4]. أي: كليل منقطع؛ وقيل: معناه نادماً على ما سلف، فجعله هذا القائل من الحسرة التي هي الندامة، وفيه نظر، لأن الفاعل من الحسرة: حسران. ولا يقال محسور إلاّ للملوم. ثم سلى رسوله والمؤمنين بأن الذين يرهقهم من الإضافة ليس لهوانهم على الله سبحانه، ولكن لمشيئة الخالق الرازق فقال: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ} أي: يوسعه على بعض ويضيقه على بعض لحكمة بالغة لا لكون من وسع له رزقه مكرماً عنده، ومن ضيقه عليه هائناً لديه. قيل: ويجوز أن يراد أن البسط والقبض إنما هما من أمر الله الذي لا تفنى خزائنه. فأما عباده فعليهم أن يقتصدوا. ثم علل ما ذكره من البسط للبعض والتضييق على البعض بقوله: {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} أي: يعلم ما يسرون وما يعلنون، لا يخفى عليه من ذلك خافية، فهو الخبير بأحوالهم، البصير بكيفية تدبيرهم في أرزاقهم، وفي هذه الآية دليل على أنه المتكفل بأرزاق عباده، فلذلك قال بعدها: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إملاق} أملق الرجل: لم يبق له إلاّ الملقات، وهي الحجارة العظام الملس، قال الهذلي يصف صائداً: الأقيدر تصغير الأقدر: وهو الرجل القصير، والخشيف من الثياب: الخلق، وسامت: مرّت، ويقال: أملق: إذا افتقر وسلب الدهر ما بيده. قال أوس: نهاهم الله سبحانه عن أن يقتلوا أولادهم خشية الفقر، وقد كانوا يفعلون ذلك، ثم بيّن لهم أن خوفهم من الفقر حتى يبلغوا بسبب ذلك إلى قتل الأولاد لا وجه له، فإن الله سبحانه هو الرازق لعباده، يرزق الأبناء كما يرزق الآباء، فقال: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} ولستم لهم برازقين حتى تصنعوا بهم هذا الصنع، وقد مرّ مثل هذه الآية في الأنعام ثم علل سبحانه النهي عن قتل الأولاد لذلك بقوله: {إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا}. قرأ الجمهور بكسر الخاء وسكون الطاء وبالهمز المقصور.وقرأ ابن عامر: {خطأ} بفتح الخاء والطاء والقصر في الهمز، يقال: خطئ في دينه خطئاً: إذا أثم، وأخطأ: إذا سلك سبيل خطأً عامداً أو غير عامد. قال الأزهري، خطئ يخطأ خطئاً، مثل: أثم يأثم إثماً، إذا تعمد الخطأ، وأخطأ: إذا لم يتعمد إخطاء وخطأ، قال الشاعر: والخطأ: الاسم يقوم مقام الأخطاء، وفيه لغتان: القصر، وهو الجيد، والمدّ وهو قليل. وقرأ ابن كثير بكسر الخاء وفتح الطاء ومد الهمز. قال النحاس: ولا أعرف لهذه القراءة وجهاً، وكذلك جعلها أبو حاتم غلطاً. وقرأ الحسن: {خطا} بفتح الخاء والطاء منوّنة من غير همز. ولما نهى سبحانه عن قتل الأولاد المستدعي لإفناء النسل، ذكر النهي عن الزنا المفضي إلى ذلك لما فيه من اختلاط الأنساب فقال: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى} وفي النهي عن قربانه بمباشرة مقدماته نهي عنه بالأولى، فإن الوسيلة إلى الشيء إذا كانت حراماً كان المتوسل إليه حراماً بفحوى الخطاب، والزنى فيه لغتان: المد، والقصر. قال الشاعر: ثم علل النهي عن الزنا بقوله: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} أي: قبيحاً متبالغاً في القبح، مجاوزاً للحدّ {وَسَاء سَبِيلاً} أي: بئس طريقاً طريقه، وذلك لأنه يؤدي إلى النار، ولا خلاف في كونه من كبائر الذنوب.وقد ورد في تقبيحه والتنفير عنه من الأدلة ما هو معلوم. ولما فرغ من ذكر النهي عن القتل لخصوص الأولاد، وعن النهي عن الزنا الذي يفضي إلى ما يفضي إليه قتل الأولاد، من اختلاط الأنساب، وعدم استقرارها، نهى عن قتل الأنفس المعصومة على العموم فقال: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق}. والمراد بالتي حرّم الله: التي جعلها معصومة بعصمة الدين أو عصمة العهد. والمراد بالحق الذي استثناه: هو ما يباح به قتل الأنفس المعصومة في الأصل، وذلك كالردّة، والزنا من المحصن، وكالقصاص من القاتل عمداً عدواناً، وما يلتحق بذلك. والاستثناء مفرّغ، أي: لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلاّ بسبب متلبس بالحق، أو إلاّ متلبسين بالحق، وقد تقدّم الكلام في هذا في الأنعام. ثم بين حكم بعض المقتولين بغير حق فقال: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا} أي: لا بسبب من الأسباب المسوّغة لقتله شرعاً {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سلطانا} أي: لمن يلي أمره من ورثته إن كانوا موجودين، أو ممن له سلطان إن لم يكونوا موجودين، والسلطان: التسلط على القاتل، إن شاء قتل، وإن شاء عفا، وإن شاء أخذ الدية. ثم لما بيّن إباحة القصاص، لمن هو مستحق لدم المقتول، أو ما هو عوض عن القصاص نهاه عن مجاوزة الحدّ فقال: {فَلاَ يُسْرِف في القتل} أي: لا يجاوز ما أباحه الله له، فيقتل بالواحد اثنين أو جماعة، أو يمثل بالقاتل أو يعذبه.قرأ الجمهور {لا يسرف} بالياء التحتية، أي: الولي، وقرأ حمزة والكسائي: {تسرف} بالتاء الفوقية، وهو خطاب للقاتل الأوّل، ونهي له عن القتل أي: فلا تسرف أيها القاتل بالقتل فإن عليك القصاص مع ما عليك من عقوبة الله وسخطه ولعنته.وقال ابن جرير: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وللأئمة من بعده، أي: لا تقتل يا محمد غير القاتل، ولا يفعل ذلك الأئمة بعدك. وفي قراءة أبي: ولا تسرفوا، ثم علل النهي عن السرف فقال: {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} أي: مؤيداً معاناً، يعني: الولي، فإن الله سبحانه قد نصره بإثبات القصاص له بما أبرزه من الحجج، وأوضحه من الأدلة، وأمر أهل الولايات بمعونته والقيام بحقه حتى يستوفيه، ويجوز أن يكون الضمير راجعاً إلى المقتول، أي: إن الله نصره بوليّه، قيل: وهذه الآية من أوّل ما نزل من القرآن في شأن القتل لأنها مكية.وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: {إِن تَكُونُواْ صالحين} قال: تكون البادرة من الولد إلى الوالد، فقال الله: {إِن تَكُونُواْ صالحين} إن تكن النية صادقة {فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُوراً} للبادرة التي بدرت منه، وأخرج ابن أبي الدنيا، والبيهقي في الشعب عنه في قوله: {إِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُوراً} قال: الرجاعين إلى الخير.وأخرج سعيد بن منصور، وهناد، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن الضحاك في الآية، قال: الرجاعين من الذنب إلى التوبة، ومن السيئات إلى الحسنات.وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {لِلأوَّابِينَ} قال: للمطيعين المحسنين.وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب عنه، قال: للتوابين.وأخرج البخاري في تاريخه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: {وَءاتِ ذَا القربى حَقَّهُ} قال: أمره بأحقّ الحقوق، وعلمه كيف يصنع إذا كان عنده، وكيف يصنع إذا لم يكن عنده، فقال: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابتغاء رَحْمَةٍ مّن رَّبّكَ تَرْجُوهَا} قال: إذا سألوك وليس عندك شيء انتظرت رزقاً من الله {فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا} يكون إن شاء الله يكون شبه العدة. قال سفيان: والعدة من النبي صلى الله عليه وسلم دين.وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال: هو أن تصل ذا القرابة، وتطعم المسكين، وتحسن إلى ابن السبيل.وأخرج ابن جرير عن علي بن الحسين أنه قال لرجل من أهل الشام: أقرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: فما قرأت في بني إسرائيل: {وَءاتِ ذَا القربى حَقَّهُ}؟ قال: وإنكم للقرابة التي أمر الله أن يؤتي حقهم؟ قال: نعم.وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في الآية، قال: والقربى: قربى بني عبد المطلب.وأقول: ليس في السياق ما يفيد هذا التخصيص، ولا دلّ على ذلك دليل، ومعنى النظم القرآني واضح، إن كان الخطاب مع كل من يصلح له من الأمة، لأن معناه أمر كل مكلف متمكن من صلة قرابته بأن يعطيهم حقهم وهو الصلة التي أمر الله بها. وإن كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن كان على وجه التعريض لأمته فالأمر فيه كالأوّل، وإن كان خطاباً له من دون تعريض، فأمته أسوته، فالأمر له صلى الله عليه وسلم بإيتاء ذي القربى حقه، أمر لكل فرد من أفراد أمته، والظاهر أن هذا الخطاب ليس خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم بدليل ما قبل هذه الآية، وهي قوله: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه} [الأسراء: 23] وما بعدها، وهي قوله: {وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ المبذرين كَانُواْ إخوان الشياطين}.وفي معنى هذه الآية الدالة على وجوب صلة الرحم أحاديث كثيرة.وأخرج أحمد، والحاكم وصححه عن أنس: أن رجلاً قال: يا رسول الله إني ذو مال كثير وذو أهل وولد وحاضرة، فأخبرني كيف أنفق وكيف أصنع؟ قال: «تخرج الزكاة المفروضة، فإنها طهرة تطهرك وتصل أقاربك وتعرف حقّ السائل والجار والمسكين»، فقال: يا رسول الله أقلل لي؟ قال: «فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيراً» قال: حسبي يا رسول الله.وأخرج البزار، وأبو يعلى، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت هذه الآية {وَءاتِ ذَا القربى حَقَّهُ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة فأعطاها فدك.وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت: {وَءاتِ ذَا القربى حَقَّهُ} أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة فدك. قال ابن كثير بعد أن ساق حديث أبي سعيد هذا ما لفظه: وهذا الحديث مشكل لو صح إسناده، لأن الآية مكية، وفدك إنما فتحت مع خيبر سنة سبع من الهجرة، فكيف يلتئم هذا مع هذا؟ انتهى.وأخرج الفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والبخاري في الأدب، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم، وصححه، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود في قوله: {وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا} قال: التبذير إنفاق المال في غير حقه.وأخرج ابن جرير عنه قال: كنا- أصحاب محمد- نتحدّث أن التبذير: النفقة في غير حقه.وأخرج سعيد بن منصور، والبخاري في الأدب، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ المبذرين} قال: هم الذين ينفقون المال في غير حقه.وأخرج البيهقي في الشعب عن عليّ قال: ما أنفقت على نفسك وأهل بيتك في غير سرف ولا تبذير وما تصدقت فلك، وما أنفقت رياء وسمعة فذلك حظ الشيطان.وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا} قال: العدة.وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر عن يسار أبي الحكم قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم برّ من العراق، وكان معطاء كريماً، فقسمه بين الناس، فبلغ ذلك قوماً من العرب، فقالوا: إنا نأتي النبي صلى الله عليه وسلم نسأله، فوجدوه وقد فرغ منه، فأنزل الله: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ} قال: محبوسة {وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط فَتَقْعُدَ مَلُومًا} يلومك الناس {مَّحْسُوراً} ليس بيدك شيء. أقول: ولا أدري كيف هذا؟ فالآية مكية، ولم يكن إذ ذاك عرب يقصدون رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يحمل إليه شيء من العراق ولا مما هو أقرب منه، على أن فتح العراق لم يكن إلاّ بعد موته صلى الله عليه وسلم.وأخرج ابن جرير عن المنهال بن عمرو: بعثت امرأة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بابنها فقالت: قل له: اكسني ثوباً، فقال: «ما عندي شيء»، فقالت: ارجع إليه فقل له: اكسني قميصك، فرجع إليه، فنزع قميصه فأعطاها إياه، فنزلت: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً} الآية.وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود نحوه.وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة وضرب بيده: «أنفقي ما على ظهر كفي»، قالت: إذن لا يبقى شيء. قال ذلك ثلاث مرات، فأنزل الله: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً} الآية، ويقدح في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يتزوّج بعائشة إلاّ بعد الهجرة.وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً} قال: يعني بذلك: البخل.وأخرجا عنه في الآية قال: هذا في النفقة، يقول: لا تجعلها مغلولة لا تبسطها بخير، ولا تبسطها كل البسط، يعني: التبذير {فَتَقْعُدَ مَلُومًا} يلوم نفسه على ما فاته من ماله {مَّحْسُوراً} ذهب ماله كله.وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ} قال: ينظر له، فإن كان الغنى خيراً له، أغناه، وإن كان الفقر خيراً له، أفقره.وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {خَشْيَةَ إملاق} قال: مخافة الفقر والفاقة.وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه في قوله: {خطأ} قال: خطيئة.وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنا} قال: يوم نزلت هذه الآية لم يكن حدود، فجاءت بعد ذلك الحدود في سورة النور.وأخرج أبو يعلى، وابن مردويه عن أبيّ بن كعب أنه قرأ: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنا إِنَّهُ كَانَ فاحشة وَمَقْتاً وَسَاء سَبِيلاً إِلاَّ مَن تَابَ فَإِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} فذكر لعمر، فأتاه فسأله، فقال: أخذتها من فيّ رسول الله، وليس لك عمل إلاّ الصفق بالبقيع.وقد ورد في الترهيب عن فاحشة الزنا أحاديث كثيرة.وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن الضحاك في قوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس} الآية، قال: هذا بمكة ونبي الله صلى الله عليه وسلم بها، وهو أوّل شيء نزل من القرآن في شأن القتل، كان المشركون من أهل مكة يغتالون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الله: من قتلكم من المشركين، فلا يحملنكم قتله إياكم على أن تقتلوا له أباً أو أخاً أو واحداً من عشيرته وإن كانوا مشركين، فلا تقتلوا إلاّ قاتلكم، وهذا قبل أن تنزل براءة، وقبل أن يؤمر بقتال المشركين، فذلك قوله: {فَلاَ يُسْرِف في القتل إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} يقول: لا تقتل غير قاتلك، وهي اليوم على ذلك الموضع من المسلمين لا يحل لهم أن يقتلوا إلاّ قاتلهم.وأخرج البيهقي في سننه عن زيد بن أسلم أن الناس في الجاهلية كانوا إذا قتل الرجل من القوم رجلاً لم يرضوا حتى يقتلوا به رجلاً شريفاً، إذا كان قاتلهم غير شريف لم يقتلوا قاتلهم وقتلوا غيره، فوعظوا في ذلك بقول الله سبحانه: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس} إلى قوله: {فَلاَ يُسْرِف في القتل}.وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سلطانا} قال: بينة من الله أنزلها، يطلبها وليّ المقتول، القود أو العقل، وذلك السلطان.وأخرج ابن أبي حاتم من طريق مجاهد عنه {فَلاَ يُسْرِف في القتل} قال: لا يكثر في القتل.وأخرج ابن المنذر من طريق أبي صالح عنه أيضاً: لا يقاتل إلاّ قاتل رحمه.
|