الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)
.تفسير الآية رقم (10): {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)}ولما كان أمر الاستئصال في الإنجاء والإهلاك أشبه شيء بحال أهل الآخرة في الدينونة بالعدل والفضل، وكان المفتتح به السورة عتاب النساء، ثم أتبع بالأمر بالتأديب لجميع الأمة إلى أن ختم بهلاك المخالف في الدارين، وكان للكفار قرابات بالمسلمين وكانوا يظنون أنها ربما تنفعهم، وللمسلمين قرابات بالكفار وكانوا ربما توهموا أنها تضرهم، قال مجيباً لما يتخيل من ذلك تأديباً لمن ينكر عليه صلى الله عليه وسلم من النساء وغيرهن: {ضرب الله} أي الملك الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً {مثلاً} يعلم به من فيه قابلية العلم ويتعظ به من له أهلية الاتعاظ {للذين كفروا} أي غطوا الحق على أنفسهم وعلى غيرهم سواء كانوا مشاققين أو منافقين في عدم انتفاعهم مع كفرهم بما بينهم وبين المؤمنين من الوصل والعلائق فيغلظ عليهم في الدارين معاملة بما يستحقون من غير محاباة لأحد وإن جل مقامه، وعلا منصبه ومرامه، لأن الكفر قاطع للعلائق بين الكافر والمسلم: {امرأت نوح} الذي أهلك الله من كذبه بالغرق ونصره وآواه عليه الصلاة والسلام وكان اسمها فيما يقال واعلة {وامرأت لوط} الذي أهلك الله أيضاً من كذبه بالحصب والخسف والإغراق، واسمها فيما قيل واهلة، ودل على وجه الشبه بقوله: {كانتا} أي مع كونهما كافرتين. ولم يقل: تحتهما، بل أظهر بالوصف العبودية المضافة إليه سبحانه وتعالى والوصف بالصلاح لأن ذلك أفخم، فيكون أشد تأثيراً للموعوظ وأعظم، ودفعاً لأن يتوهم أحد بشيء لا يليق بمقامهما عليهما الصلاة والسلام فقال: {تحت عبدين} أي كل واحدة منهما تحت عبد، وعبر بذلك لأن أثر الناس عند الملك كما تقدم عبيده، ودل على كثرة عبيده تنبيهاً على غناه بقوله: {من عبادنا}.ولما كانت طبقات القرب متفاوتة بحسب الصلاح قال: {صالحين} وهما نوح ولوط عليهما الصلاة والسلام {فخانتاهما} بعدم المتابعة في الدين نفاقاً منهما لا بالخيانة في الفرش، فقد صان الله جميع الأنبياء من ذلك فلم تقل واحدة منهما لأجل كفرهما: رب اجعلني مع نبيك في الجنة، وآذن بعدم قبول الشفاعة فيمن أساء إلى الحبيب وبعذابه حتماً للتشفي بقوله: {فلم} أي فتسبب عن ذلك أن العبدين الصالحين لم {يغنيا عنهما} أي المرأتين بحق الزواج {من الله} أي من عذاب الملك الذي له الأمر كله فلا أمر لغيره {شيئاً} أي من إغناء لأجل خيانتهما بالمخالفة في الدين، ودل على كمال قدرته تعالى بالتعبير بالمجهول فقال: {وقيل} أي للمرأتين ممن أذن له في القول النافذ الذي لا مرد له: {ادخلا النار} أي مقدماتها من الإصرار على الكفر ثم الإهلاك بعذاب الانتقام في الدنيا وحقيقتها في الآخرة لأن الله أبغضهما لأنهما عدو لأوليائه، وذلك كما قيل: عدو صديقي ليس لي بصديق.ولما فعلتا فعل الرجال في استقلالهما وعدم عدهما لأنفسهما تبعاً، غلظ عذابهما بالكون مع الرجال في عذابهم فقال دالاً على نفوذ الحكم فيمن هو أقوى منهما بعد نفوذه فيهما: {مع الداخلين} أي الذين هم أعظم منهما ممن لهم وصلة بأهل الله وممن لا وصلة لهم بهم، فليتأدب كل أحد مع النبي صلى الله عليه وسلم غاية الأدب خوفاً من مثل ذلك، وهذا خالع لقلوب من ابتدأ بتأديبهن- رضي الله تعالى عنهن..تفسير الآيات (11- 12): {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)}ولما أتم مثل النذارة بأن طاعة المطيع لا تنفع العاصي وإن كان أقرب الناس إلى المطيع إلا إن كان له أساس يصح البناء عليه، ويجوز الاعتداد به والنظر إليه، أتبعه مثل البشارة بأن عصيان العاصي لا يضر المطيع فقال: {وضرب الله} أي الملك الأعلى الذي له صفات الكمال {مثلاً للذين آمنوا} ولو كان في أدنى درجات الإيمان مبيناً لأن وصلة الكفار إذا كانت على وجه الإكراه والإجبار لا تضر {امرأت فرعون} واسمها آسية بنت مزاحم، آمنت وعملت صالحاً فلم تضرها الوصلة بالكافر بالزوجية التي هي من أعظم الوصل ولا نفعه إيمانها {كل امرئ بما كسب رهين} [الطور: 21] وأثابها ربها سبحانه أن جعلها زوجة خير خلقه محمد صلى الله عليه وسلم في دار كرامته بصبرها على عبادة الله وهي في حبالة عدوه، وأسقط وصفه بالعبودية دليلاً على تحقيره وعدم رحمته لأنه أعدى أعدائه، وأشار إلى وجه الشبه في المثل وهو التحيز إلى حزب الله بقدر الوسع فقال: {إذ} أي مثلهم مثلها حين {قالت} تصديقاً بالعبث منادية نداء الخواص بإسقاط الأداة لأجل أنها مؤمنة وإن كانت تحت كافر بنا فلم تضر صحبته شيئاً لأجل إيمانها: {رب} أي أيها المحسن إليّ بالهداية وأنا في حبالة هذا الكافر الجبار ولم تغرني بعز الدنيا وسعتها {ابن لي}.ولما كان الجار مطلوباً- كما قالوا- قبل الدار، طلبت خير جار وقدمت الظرف اهتماماً به لنصه على المجاورة ولدلالته على الزلفى فقالت: {عندك بيتاً} وعينت مرادها بالعندية فقالت: {في الجنة} لأنها دار المقربين فظهر من أول كلامها وآخره أن مطلوبها أخص داره، وقد أجابها سبحانه بأن جعلها زوجة لخاتم رسوله الذي هو خير خلقه وأقربهم منه، فكانت معه في منزله الذي هو أعلى المنازل.ولما سألت ما حيّزها إلى جناب الله سألت ما يباعدها في الدارين من أعدائه فقالت: {ونجني} أي تنجية عظيمة {من فرعون} أي فلا أكون عنده ولا تسلطه عليّ بما يضرني عندك {وعمله} أي أن أعمل بشيء منه {ونجني} أعادت العامل تأكيداً {من القوم الظالمين} أي الناس الأقوياء العريقين في أن يضعوا أعمالهم في غير مواضعها التي أمروا بوضعها فيها فعل من يمشي في الظلام عامة، وهم القبط، لا تخالطني بأحد منهم، فاستجاب الله تعالى دعاءها وأحسن إليها لأجل محبتها للمحبوب وهو موسى عليه الصلاة والسلام كما يقال: صديق صديقي داخل في صداقتي، وذلك أن موسى عليه الصلاة والسلام لما غلب السحرة آمنت به فعذبها فرعون فماتت بعد أن أراها الله بيتها في الجنة ولم يضرها كونها تحت فرعون شيئاً لأنها كانت معذورة في ذلك، فالآية من الاحتباك: حذف أولاً فلم تسألا الجنة لدلالة {رب ابن لي} ثانياً عليه، وحذف ثانياً كانت تحت كافر لدلالة الأول عليه.ولما أتم المثل بمن أساءتا الأدب فلم تنفعهما الوصلة بالأولياء بل زادتهما ضرراً للإعراض عن الخير مع قربه وتيسره، وبمن أحسنت الأدب فلم تضرها الوصلة بأعدى الأعداء بل زادتها خيراً لإحسانها مع قيام المغتر بها عن الإحسان ضرب مثلاً بقرينتها في قوله صلى الله عليه وسلم كما رواه الشيخان عن أبي موسى رضي الله عنه: «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام» ومع مقارنتها لها في الكمال، فبين حاليهما في الثيوبة والبكورة طباق، فلم يبتلها سبحانه بخلطة زوج جمعاً بين ما تقدم من صنفي الثيبات والأبكار اللاتي يعطيهما لنبيه صلى الله عليه وسلم فأحسنت الأدب في نفسها مع الله ومع سائر من لزمها الأدب معه من عباده فأحسن إليها رعاية لها على ما وفقها إليه من الإحسان، وذلك رعاية لأسلافها إذ كانوا من أعظم الأحباب فقال: {ومريم} أي وضرب الله مثلاً لأهل الانفراد والعزلة من الذين آمنوا مريم {ابنة عمران} أي أحد الأحباب، وذكر وجه الشبه فقال: {التي أحصنت فرجها} أي عفت عن السوء وجميع مقدماته عفة كانت كالحصن العظيم المانع من العدو فاستمرت على بكريتها إلى الممات فتزوجها في الجنة جزاء لها بخير عبادنا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وإمام المرسلين.ولما اغتنت بأنسها بروح الله الذي بثه في قلبها من محبة الذكر والعبادة عن الأنس بأرواح الناس، كان ذلك سبباً لأن وهبها روحاً منه جسده في أكمل الصور المقدرة في ذلك الحين فقال مخبراً عن ذلك: {فنفخنا} أي بعظمتنا بواسطة ملكنا روح القدس.ولما كانت هذه السورة لتشريف النبي صلى الله عليه وسلم وتكميل نسائه في الدنيا والآخرة، نص على المقصود بتذكير الضمير ولم يؤنثه قطعاً للسان من يقول تعنتاً: إن المراد نفخ روحها في جسدها: {فيه} أي فرجها الحقيقي وهو جيبها وكل جيب يسمى فرجاً، ويدل على الأول قراءة {فيها} شاذة {من روحنا} أي روح هو أهل لشرفه بما عظمنا من خلقه ولطف تكوينه أن يضاف إلينا لكونه خارجاً عن التسبيب المعتاد وهو جبريل عليه الصلاة والسلام أو روح الحياة.ولما كان التقدير: فكان ما أردنا، فحملت من غير ذكر ولدت عيسى عليه الصلاة والسلام الذي كان من كلمتنا وهي: احملي ثم كلمتنا: كن يا حمل من غير ذكر ثم كلمتنا: لديه يا مريم من غير مساعد ثم كلمتنا: تكلم عيسى في المهد بالحكمة عطف عليه قوله: {وصدقت} فاستحقت لذلك أن تسمى صديقة {بكلمات ربها} أي المحسن إليها بما تقدم وغيره مما كان من كلام جبريل عليه الصلاة والسلام بسببه ومن عيسى عليه الصلاة والسلام ومما تكلم به عن الله سبحانه وتعالى {وكتبه} أي وكتابه الضابط الجامع لكلامه أنزل على ولدها وغيره من كتب الله كما دل على ذلك قراءة البصريين وحفص بالجمع.ولما كان المصدق ربما كان تصديقه في الظاهر أو مشوباً بشيء من الضمائر قال: {وكانت} أي جبلة وطبعاً، وشرفها بأن جعلها في رتبة الأكمل وهم الرجال فقال: {من القانتين} أي المخلصين الذين هم في غاية القوة والكمال لأنها كانت من بنات الأحباب المصطفين على العالمين، فلم تكن عبادتها تقصر عن عبادة الأقوياء الكلمة، وقد أتم سبحانه الأمثال في الآداب بالثيبات والأبكار والأخيار والأشرار، فانعطف آخر السورة على أولها في المعاني بالآداب، وزاد ذلك حسناً كونها في النساء وفي الذوات والأعيان بزواج النبي صلى الله عليه وسلم لآسية امرأة فرعون ومريم ابنة عمران في الجنة دار القرار السالمة عن الأكدار الزواج الأبدي فصار أول السورة وآخرها في أزواجه صلى الله عليه وسلم وفي ختامها بالقنوت الذي هو خلاصة الأوصاف الماضية في الأبدال المذكورات أعظم مناسبة- والله الهادي..سورة الملك: .تفسير الآيات (1- 3): {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)}لما ختمت تلك بأن من أعرض عنه سبحانه أهلكته ولم يغن عنه أحد، ومن أقبل عليه رفعه واستخلصه ولم يضره أحد، وختم بأنه قوى مريم عليها السلام حتى كانت في درجة الكملة ورزقها الرسوخ في الإخلاص، وكان مثل هذا لا يقدر على فعله إلا من لا كفوء له، وكان من لا كفوء له أهلاً لأن يخلص له الأعمال ولا يلتفت إلى سواه بحال، لأنه الملك الذي يملك الملك قال مثيراً للهمم إلى الاستبصار المثير للإرادة إلى رياضة تثمر جميع أبواب السعادة: {تبارك} أي تكبر وتقدس وتعالى وتعاظم وثبت ثباتاً لا مثل له مع اليمن والبركة وتواتر الإحسان والعلى.ولما كان من له الملك قد لا يكون متمكناً من إبقائه في يده أو إعطاء ما يريد منه لغيره ونزعه منه متى أراد قال: {الذي بيده} أي بقدرته وتصرفه لا بقدرة غيره {الملك} أي أمر ظاهر العالم فإليه كل تدبير له وتدبير فيه وبقدرته إظهار ما يريد، لا مانع له من شيء ولا كفوء له بوجه، وهو كناية عن الإحاطة والقهر، وذكر اليد إنما هو تصوير للإحاطة ولتمام القدرة لأنها محلها مع التنزه عن الجارحة وعن كل ما يفهم حاجة أو شبهاً بالخلق.وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: ورود ما افتتحت به هذه السورة من التنزيه وصفات التعالي إنما يكون عقيب تفصيل وإيراد عجائب من صنعه سبحانه كورود قوله تعالى: {فتبارك الله أحسن الخالقين} عقيب تفصيل التقلب الإنساني من لدن خلقه من سلالة من طين إلى إنشائه خلقاً آخر وكذا كل ما ورد من هذا ما لم يرد أثناء أي قد جردت للتنزيه والإعلام بصفات التعالي والجلال.ولما كان قد أوقع في آخر سورة التحريم ما فيه أعظم عبرة لمن تذكر، وأعلى آية لمن استبصر، من ذكر امرأتين كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين قد بعثهما الله تعالى رحمة لعباده واجتهدا في دعاء الخلق، فحرم الاستنارة بنورهما والعياذ بهداهما من لم يكن أحد من جنسهما أقرب إليهما منه ولا أكثر مشاهدة لما مدا به من الآيات وعظيم المعجزات، ومع ذلك فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً، ثم أعقبت هذه العظة بما جعل في طرف منها ونقيض من حالها، وهو ذكر امرأة فرعون التي لم يغرها مرتكب صاحبها وعظيم جرأته مع شدة الوصلة واستمرار الألفة لما سبق لها في العلم القديم من السعادة وعظيم الرحمة فقالت: {رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة} [التحريم: 11] وحصل في هاتين القصتين تقديم سبب رحمة حرم التمسك به أولى الناس في ظاهر الأمر وتقديم سبب امتحان عصم منه أقرب الناس إلى التورط فيه، ثم أعقب ذلك بقصة عريت عن مثل هذين السببين وانفصلت في مقدماتها عن تينك القصتين، وهو ذكر مريم ابنة عمران ليعلم العاقل حيث يضع الأسباب، وأن القلوب بيد العزيز الوهاب، أعقب تعالى ذلك.بقوله الحق {تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير} [الملك: 1] وإذا كان الملك سبحانه وتعالى بيده الملك فهو الذي يؤتي الملك والفضل من يشاء وينزعه ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء كما صرحت به الآية الأخرى في آل عمران، فقد اتضح اتصال سورة الملك بما قبلها ثم بنيت سورة الملك على التنبيه والاعتبار ببسط الدلائل ونصب البراهين حسبما يبسطه التفسير- انتهى.ولما كان المتصرف في الملك قد لا يكون قدرته تامة ولا عامة قال تعالى: {وهو} أي وحده له عظمة تستولي على القلوب وسياسة تعم كل جلب نفع ودفع ضرر لأنه {على كل شيء} أي يمكن يشاؤه من الملك وغيره من باطنه وهو الملكوت وغيره مما وجد وما لم يوجد {قدير} أي تام القدرة، ودل على ذلك بقوله: {الذي خلق} أي قدر وأوجد.ولما كان الخوف من إيقاع المؤلم ادعى إلى الخضوع لأنه أدل على الملك مع أن الأصل في الأشياء العدم، قدم قوله: {الموت} أي هذا الجنس وهو زوال الحياة عن الحي الذي هو في غاية الاقتدار على التقلب بجعله جماداً كأن لم يكن به حركة أصلاً. أول ما يفعل في تلك الدار بعد استقرار كل فريق في داره وأن يعدم هذا الجنس فيذبح بعد أن يصور في صورة كبش {والحياة} أي هذا الجنس وهو المعنى الذي يقدر الجماد به على التقلب بنفسه وبالإرادة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الموت خلقه الله على صورة كبش أملح لا يمر بشيء ولا يجد ريحه إلا مات، والحياة على صورة فرس بلقاء وهي التي كان جبريل والأنبياء يركبونها فلا يجد ريحها شيء إلا حيي، وهي التي أخذ السامري قبضة من أثرها وألقاه على الحلي الذي ألقاه بنو إسرائيل ونوى أن يكون عجلاً فصار عجلاً.ولما ذكر الدال على القدرة أتبعه غايته، وهو الحكم الذي هو خاصة الملوك فقال تعالى: {ليبلوكم} أي يعاملكم وهو أعلم بكم من أنفسكم معاملة المختبر لإظهار ما عندكم من العمل بالاختيار {أيكم أحسن عملاً} أي من جهة العمل أي عمله أحسن من عمل غيره، وعبارة القرآن في إسناد الحسن إلى الإنسان تدل على أن من كان عمله أحسن كان هو أحسن ولو أنه أبشع الناس منظراً، ومن كان عمله أسوأ كان بخلاف ذلك، والحسن إنما يدرك بالشرع، فما حسنه الشرع فهو الحسن وما قبحه فهو القبيح، وكان ذلك مفيداً للقيام بالطاعة لأن من تفكر في حاله علم أنه مباين لبقية الحيوانات بعقلة وللنباتات بحياته، وللجمادات بنموه، وأن ذلك ليس له من ذاته بدليل موته، فما كان له ذلك إلا بفاعل مختار، له الحياة من ذاته، فيجتهد في رضاه باتباع رسله إن كان عاقلاً، فيشكره إذا أنعم، ويصبر إن امتحن وانتقم، ويخدمه بما أمر وينزجر عما عنه زجره، فهذه الآية مشتملة على وجود المقتضي للسعادة وانتفاء المانع منها ووجود المقتضي إعداد وإرشاد، فالإعداد إعانته سبحانه للعبد بإعداده لقبول السعادة كالحداد يلين الحديد بالنار ليقبل أن يكون سكيناً، والإرشاد أخذه بالناصية إلى ما أعد له كالضرب بالسكين وإصلاحها للقطع بها، وانتفاء المانع هو الموقف عن ذلك وهو دفع المشوشات والمفسدات كتثلم السكين وهو يجري السبب وسبب السبب، وهو ما اشتمل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم أعني ولا تعن عليّ» الحديث، فذكره لتمام القدرة والعزة مع ذكر الأحسن دال على توفيقه بما ذكر، ومن تأمل الآية عرف أنه ما خلق لا ليتميز جوهره من صدق غيره أو صدقه من جوهر غيره، وأن الدنيا مزروعة، وأن الآخرة محصدة، فيصير من نفسه على بصيرة، وثارت إرادته لما خلق له تارة بالنظر إلى جمال ربه من حسن وإحسان، وأخرى إلى جلاله من قدرة وإمكان، وتارة بالنظر لنفسه بالشفقة عليها من خزي الحرمان، فيجتهد في رضا ربه وصلاح نفسه خوفاً من عاقبة هذه البلوى.ولما كان لا يغفل الابتلاء منا إلا جاهل بالعواقب وعاجز عن رد المسيء عن إساءته وجعله محسناً من أول نشأته، قال نافياً لذلك عن منيع جنابه بعد أن نفاه بلطيف تدبيره وعظيم أمره في خلق الموت والحياة، ومزيلاً بوصف العزة لما قد يقوله من يكون قوي الهمة: أنا لا أحتاج إلى تعب كبير في الوصول إليه سبحانه بل أصل إليه أي وقت شئت بأيسر سعي {وهو} أي والحال أنه وحده {العزيز} أي الذي يصعب الوصول إليه جداً، من العزاز وهو المكان الوعر والذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء، فلو أراد جعل الكل محسنين، ولا يكون كذلك إلا وهو تام القدرة فيلزم تمام العلم والوحدانية ووجوب الوجود أزلاً وأبداً.ولما كان العزيز منا يهلك كل من خالفه إذا علم مخالفته، قال مبيناً إمهاله للعصاة مرغباً للمسيء في التوبة، بعد ترهيبه من الإصرار على الحوبة، لأنه قد يكون مزدرئاً لنفسه قائلاً: إن مثلي لا يصلح للخدمة لما لي من الذنوب القاطعة وأين التراب من رب الأرباب {الغفور} أي أنه مع ذلك يفعل في محو الذنوب عيناً وأثراً فعل المبالغ في ذلك ويتلقى من أقبل إليه أحسن تلق كما قال تعالى في الحديث القدسي «ومن أتاني يمشي أتيته هرولة».ولما أثبت له سبحانه صفتي العز والغفر على أبلغ ما يكون، دل على ذلك بقوله دالاً على كمال تفرده بعد آيات الأنفس بآيات الآفاق إرشاداً إلى معالي الأخلاق: {الذي خلق} أي أبدع على هذا التقدير من غير مثال سبق {سبع سماوات} حال كونها {طباقاً} جمع طبق كل واحدة منها كأنها لشدة مطابقتها للأخرى طالبة مطابقتها بحيث يكون كل جزء منها مطابقاً لجزء من الأخرى، ولا يكون جزء منها خارجاً عن ذلك وهي لا تكون كذلك إلا بأن تكون الأرض كرة والسماء الدنيا محيطة بها إحاطة قشر البيضة بالبيضة من جميع الجوانب والثانية محيطة بالدنيا وهكذا إلى أن يكون العرش محيطاً بالكل، والكرسي الذي هو أقربها إليه بالنسبة إليه كحلقة ملقاة في فلاة، فما ظنك بما تحته، وكل سماه في التي فوقها بهذه النسبة، وقد قرر أهل الهيئة أنها كذلك، وليس في الشرع ما يخالفه بل ظواهره توافقه ولاسيما التشبيه بالحلقة الملقاة في فلاة كما مضى بسط ذلك في ذلك سورة السجدة، وأحاط سبحانه بالأرض منافعها من جميع الجوانب، وجعل المركز بحيث يجذب إليه الأسفل فكيفما مشى الحيوان في جوانبها اقتضى المركز أن تكون رجلاه إلى الأرض ورأسه إلى السماء لتكون السماء في رأيه دائماً أعلى، والأرض أسفل في أي جانب كان هو عليها، فسبحان اللطيف الخبير، ولا شك أن من تفكر في هذه العظمة مع ما لطف بنا فيما هيأه فيها لنا من المنافع، آثره سبحانه بالحب وأفرده عن كل ضد، فانقطع باللجاء إليه ولم يعول إلا عليه في كل دفع ونفع، وسارع في مراضيه ومحابه في كل خفض ورفع.ولما كان ذلك في حد ذاته خارجاً عن طوق المخلوق، وكان سمك كل سماء مسيرة خمسمائة عام، ولما بين كل سماءين كذلك مع عدم الفروج والعمد والأطناب، فكان ذلك النهاية في الخروج عن العادة في حد ذاته ولأنه قيل: إن القبة إذا بنيت بلا فروج ولا شيء يدخل الهواء منه تفسد وتسقط، دل على عزته بعظيم صنعه في ذلك بقوله واصفاً لها: {ما ترى في} وكان الأصل: خلقها، ولكنه دل على عزته وعموم عظمته بقوله: {خلق الرحمن} أي لها ولغيرها ولولا رحمته وعموم عظمته التي اقتضت إكرامه لخلقه بعد غفرانه لما لهم من النقائص ما أحسن إليهم بها في اتساعها وزينتها وما فيها من المنافع، وأعرق في النفي بقوله: {من تفاوت} بين صغير ذلك الخلق وكبيره بالنسبة إلى الخالق في إيجاده له على حد سواء، إنما قوله إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، فلا فرق في ذلك بين الذرة مثلاً والغرس ولا بالنسبة إلى الخالق من عجز صغيرهم وكبيرهم عن إيجاد شيء من العدم صغيراً كان أو كبيراً جليلاً كان أو حقيراً، ولا ترى تفاوتاً في الخلق بأن يكون شيء منه فائتاً للآخر بالمخالفة والاضطراب والتناقض في الخلقة غير مناسب له بأن يكون خارجاً عنه أو منافراً له في مقتضى الحكمة، وآثار الإحسان في الصنعة، والنزول عن الإتقان والاتساق، والخروج عن الإحكام والاتفاق، والدلالة للخالق على كمال القدرة وللمخلوق على الحدوث بنوع من ضعف البنية بحيث يكون كل واحد كالطالب لأن يخالف الآخر، أو تعمد لأن يفوت الآخر ويخالفه- على قراءة حذف الألف والتشديد بحيث يكون التفاضل في المزدوجات وعدم المساواة كأنه مقصود بالذات وبالقصد الأول، بل لا توجد المخالفة إلا نارداً بحيث يعلم أن المشاكلة هي المقصود بالذات وبالقصد الأول، فإذا وقع في شيء منه مخالفة كان على وجه الندور ليعلم أنه ليس مقصوداً بالذات، وإنما أريد به الدلالة على الاختيار وأن الفاعل هو القادر المختار لا الطبيعة، قال الرازي: كأن التفاوت الشيء المختلف لأعلى النظام، وقال البغوي: من اعوجاج واختلاف وتناقض، وقال غيره: عدم التناسب كأن بعض الشيء يفوت بعضاً ولا يلائمه، وهو من الفوت وهو أن يفوت بعضها بعضاً لقلة استوائها، وقال أبو حيان: والتفاوت تجاوز الحد الذي يجب له زيادة أو نقصان- انتهى.يظهر ذلك بأن أغلب الخلق أجوف، والأجوف يعمل مبسوطاً ثم يضم ويوصل أحد جانبيه بالآخر فيكون ثم نوع فطر يعرفه أهل الحذق وإن اجتهد صانعه في إخفائه وإن كان فيه أشياء متقابلة كان فيها تفاوت ولو قل وإن اجتهد الصانع في المساواة، وخلق الله لا تفاوت فيه بوجه، فالسماوات كرية ولا ترى في جانب منها شقاً ولا فطراً ظاهراً ولا خفياً، والحيوان أجوف ولا ترى في شيء من جسده فصماً يكون الضم والتجويف وقع به وكل من متقابليه مساو للأخر كالعينين والأذنين والمنخرين والساقين ونحوها مما يقصد فيه التساوي لا تفاوت فيه أصلاً- إلى غير ذلك مما يطول شرحه، ولا يمكن ضبطه، فسبحان من لا تتناهى قدرته فلا تتناهى مقدوراته، ولا تحصى بوجه معلوماته، وكل ذلك عليه هين، والأمر في ذلك واضح بين، هذا مع الاتساع الذي لا يدرك مقداره بأكثر من أن كل سماء بالنسبة إلى التي فوقها كحلقة ملقاة في فلاة إلى أن يوصل إلى الكرسي ثم العرش العظيم، ومن سر كونها كذلك حصول النفع بكل ما فيها من كواكب مرطبة أو ميبسة أو منورة واتصالات ممطرة ومثبتة يجري كل ذلك منها على ترتيب مطرد، ونظام غير منخرم مقدر جريه بالقسط مرتب على منافع الوجود ومصالح الكائنات كلها مكفوفة على هواء لطيف بتدبير شريف: لا يتعدى شيء منها طوره ولا يتخطى حده، ولا يرسب فيها تحته من الهواء فيهوي، ولا يرتفع عن محله بمقدار ذرة فيطفو، قد أحاط بكلها الأمر، وضبطها صاغرة القهر.ولما كان العلم الناشئ عن الحسن أجل العلوم، دل على بديع ما ذكره بمشاهدة الحس له كذلك، فسبب عنه قوله منبهاً بالرجع الذي هو تكرير الرجوع على أن كل أحد يشاهد ذلك كذلك من حين يعقل إلى أن يبلغ حد التكليف المقتضي للمخاطبة بهذا الكلام: {فارجع البصر} أي بعد ترديدك له قبل ذلك، ودل بتوجيه الخطاب نحو أكمل الخلق صلى الله عليه وسلم في السمع والبصر والبصيره وكل معنى إلى أن ذلك لا شبهة فيه.ولما كان السؤال عن الشيء يدل على شدة الاهتمام بالبحث عنه، نبه على أن هذا مما اشتدت عناية الأولين به فقال: {هل ترى} أي في شيء منها.ولما كان هذا الاستفهام مفيداً للنفي، أعرق في النفي بقوله: {من فطور} أي خلل بشقوق وصدوع أو غيرها لتغاير ما هي عليه وأخبرت به من تناسبها واستجماعها واستقامتها ما يحق لها مما يدل على عزة ما فيها وبليغ غفرانه، وهذا أيضاً يدل على إحاطة كل منها بما دونه فإنه لو كان لها فروج لفاتت المنافع التي رتبت لها النجوم المفرقة في طبقاتها أو بعضها أو كمالها، فالهواء وجميع المنافع منحبسة فيها محوطة بها مضطربة متصرفة فيها على حسب التدبير والحيوان في الهواء كالسمك في الماء، أو انحبس الهواء عنه لمات كما أنه لو انكشف الماء عن السمك لمات.
|